التشرّد هو واقع مؤلم لتلك الحياة التي أدارت ظهرها لمن وقع عليهم الاختيار في أن يعيشوا حياتهم على الأرصفة دون مساندة أحد، ولينالهم عذاب الزمن من برد وجوع وشتات لا يرحم أبداً. إنهم أناس فقدوا الأمل في كل شيء تقريباً، وباتوا يعيشون لأجل الطعام ولأجل المأوى، وليس لأجل شيء آخر. لقد شارفت طاقاتهم على النفاد، وباتت حياتهم مجرد تنفس للهواء، حيث تختفي البسمة، ويحتجب الطموح، ويتهاوى المستقبل. في الولاياتالمتحدة -على سبيل المثال- يعيش ما بين مليونين إلى ثلاثة ملايين مشرّد بحسب الإحصاءات، ودوافع هذا التشرد تعود غالباً لثلاثة أسباب هي فقدان الوظائف المسبب للانهيار المالي، وتعاطي المخدرات، والاختلالات العقلية. وبين هذه الفئات ربما يجد الباحث في ثقافتهم ما يسعفه في فهم جزء من حقائق الحياة ومنها الدبور والجحود والتقلب. إنها مسألة معقدة ربما تظل تحاكم المجتمعات في كيفية تعايشهم اليومي مع فئات تجوب الشوارع بحثاً عن الطعام والمأوى، في حين يعود الأكثرية إلى بيوتهم ليهنئوا مع ذويهم في مسكن دافئ، وجيوب ممتلئ بعضها بالمال. ومن ناحية علمية فيعرف المشرد «Homeless « بأنه من فقد منزله، وبات يسكن الشارع. وفي دراسة نوعية قام بها الباحث Robert Reosenheck حيث قضى إجازة الأسبوع بين المشردين في شوارع مدينة دالاس بولاية تكساس عام 2010, فقد تبيّن بحسب رأيه وخصوصاً فيمن فقدوا وظائفهم أنهم كانوا مثل غالبية الناس يأخذون الحياة على محمل الجد، وكان بعضهم يعيش حياة رغيدة ومزدهرة ومملوءة بالحياة. يقول الباحث «إن ثقافة هؤلاء الناس (المشردين) فريدة من نوعها. لقد تغير أسلوب حياتهم بشكل جذري ووجدوا طريقة (وإن كانت رهيبة) من أجل البقاء، فهم يقومون ببعض الجرائم البسيطة ليتم القبض عليهم ليحصلوا على الطعام والمأوى». ويسرد الباحث واقعاً مرعباً لأشخاص رآهم ويعيش بعضهم على الرصيف منذ 35 سنة. ومن الناحية العملية، فقد حظيت بالفرصة في ولاية إنديانا للتعامل المباشر مع المشرّدين لعدة سنوات من خلال تقديم وجبات الطعام المجانية لهم عبر برنامج سلام الذي أسسه المبتعث السعودي الدكتور خلف الحربي في مدينة بلومنقتون، حيث يقوم البرنامج بالتعاون الرسمي مع الجهات المعنية في المدينة على تقديم الغداء لمشردي المدينة والبالغ عددهم حوالي 85 شخصاً، وذلك في كنسية الثالوث الأسقفية، ثم في مركز شالوم الواقعين في وسط المدينة. كان البرنامج مفعماً بالحيوية والوعي ويمثله شباب الابتعاث السعودي بدافع إنساني نبيل، حيث بلغ عدد الوجبات المقدمة لما يصل إلى أربعة آلاف وجبة كانت تتم مرة كل شهر وعلى مدار أربع سنوات ونصف؛ حيث يقوم الدكتور خلف الحربي بإعداد الطعام العربي بنفسه، ثم نشاركه في تقديمه كبوفيه مفتوح للمشردين. خلال مهمتي مع بقية الزملاء، كانت لغة العيون بيننا هي السائدة، فهم محتاجون للطعام، ولكننا نبدو غريبين عليهم ثقافة وشكلا ولغة. سألت أحدهم ذات مرة وأنا أضع له الطعام في صحنه «كيف حالك اليوم؟» فأجاب حالا « سيئ جداً». كان بعضهم يألفنا مع مرور الوقت، وكان بعضهم يحتله اليقين بأننا دخلاء، لكن المشترك بينهم هو شعورهم بالإحباط والبؤس. لقد كانت التجربة مؤلمة عند التعرّف على بعض هؤلاء الناس، حيث من بينهم من كان أستاذاً جامعياً، وآخر موسيقياً، وآخر متقاعداً أخطأ في ترتيب حساباته. إنهم بحق دافع للخوف من المستقبل من جهة، ودافع للحرص من خذلان الحياة من جهة أخرى. أما عن الناحية الإنسانية، فقد شغل الأدب وكتابة الشعر نفوس بعضهم، حتى لكتب بعض المشردين قصائد موجعة تصف تجربتهم وأنينهم. يحكي ويندل براون Wendell Brown عن تجربته في إحدى قصائده النثرية التي جاءت بعنوان أغنية البوشمان وترجمت هذا الجزء منها، حيث يقول « لقد تغير عالمي! كنت وحدي. لا أحد يهتم، ولا أحد يظهر أي ترحيب. ومن عيون الغرباء، وعيون الأصدقاء، انكسر قلبي، ولن يجبر «ويتابع» بعض الشجيرات المتداخلة تحميني، عند الوحدة والبؤس. يحمونني من البرد والريح، ويساعدون في حفظ ما أتمناه» إنه بحق معجم مليء بمفردات البرد والبؤس وعدم الطمأنينة. ** ** - كاتب وأكاديمي - الولايات المتحدة