الأزمة المالية العالمية لم تتأثر منها الطبقة الوسطى في أمريكا أو أوروبا أو سواها من بلدان العالم التي تأثرت بشكل أو بآخر بتداعياتها سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ولكن تأثر منها أيضا الفقراء والمشردون وأكثر الفئات طلباً للمعونة الاجتماعية. في دول العالم الصناعي وخصوصاً في الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول أوروبا الغربية، ووفق إحصاءات الجمعيات الخيرية والمدنية في تلك البلدان زاد عدد المشردين ومستحقي الإيواء والحساء الدافئ بما يعادل ضعف طالبيه في الأعوام الماضية. من قال إن الأزمة المالية هي قضية الأغنياء ينشغل بها الفقراء، بل هي تطال أيضاً الفقراء وبشكل أكثر ألماً، كما تطال فئات من الطبقة الوسطى دفعت بها تداعيات الأزمة المالية طلباً للمعونة أو بحثاً عن مأوى. التدفقات المالية الخيرية لمصلحة جمعيات إنسانية تقلصت عن العام الماضي. هناك مؤسسات وجمعيات خيرية تواجه مشكلة العجز من التمويل، خصوصاً مع تنامي الشريحة التي تتوجه لها خدماتها. ففي فرنسا وحدها مات 67 متشرداً خلال العام الحالي ممن يعيشون بالعراء، وقد جاء هذا البيان عن تجمع «موتى الشوارع» الذي يسجل إحصاءً دورياً بأعداد المشردين الذين يتخذون الأرصفة والحدائق العامة وتحت الجسور مأوى لهم. وإذا الشيء بالشيء يذكر، مازلت أتذكر خبراً نشر العام الماضي في باريس وتناقلته وسائل الإعلام، حيث لقي رجل أربعيني حتفه من شدة البرد، وأين في هذه الساحة التي تقع في أول جادة الشانزليزيه الباذخة المزدانة بأضواء عيد الميلاد. تجمهر عشرات الأشخاص تحت المسلة الفرعونية في ساحة الكونكورد في باريس، للتضامن مع مئات المشردين. وفي تظاهرة انتظم فيها عدد من السياسيين والناشطين في حركات العون الاجتماعي طالب هؤلاء الحكومة الفرنسية بمزيد من التحرك لمساعدة معدومي الدخل وتوفير المأوى لكل المشردين. إلا أن آخرين أيضاً طالبوا بإقامة نصب ل (المشرد المجهول) الذي يموت على قارعة الطريق، على غرار نصب (الجندي المجهول). مثل هذه الأخبار تستدعي جملة مفارقات تأخذك إلى عالم الغرب الصناعي، من قُدر له أن يزور بعض عواصمه - خصصوصاً في فصل الشتاء - سيلحظ تلك المفارقات المؤلمة والجارحة بين عالم الرفاه والترف، وعالم التشرد والضياع. مسألة من هذا النوع، يستدعي السؤال أيضا عما إذا كانت الأزمة المالية قد أثرت على ميزانيات القطط والكلاب هناك. ما هو معروف أن ميزانية أي كلب أو قطة في عالم الغرب الرحيم أكثر بكثير من كلفة مساعدة متشرد ليقضي ليالي الشتاء في مكان أكثر دفئاً، وينعم بحساء ساخن، يعيد نبض الحياة إلى دمه الذي يكاد يتجمد من شدة البرد. إلا أن من الإنصاف القول إن هذا الغرب تسن فيه قوانين رعاية اجتماعية، وتنشط فيه جمعيات وقوى ضغط ونواب يحترمون حق الإنسان بالحياة وعدالة المأوى للجميع، حتى من المشردين الرافض بعضهم للحياة أصلاً، أو الواقعين تحت تأثير المخدرات وإدمان الكحول، أو المختلين عقلياً، الذين تجدهم في الشوارع الرئيسة والخلفية، ويتكاثرون في الساحات العامة وهم يعيشون عالمهم الخاص، وكأنهم لا يريدون سوى أن يبقوا شهوداً على بؤس الإنسان. يتوسل الخبر الصحفي تلك المفارقة، أربعيني يموت من البرد، وأين في ساحة الكونكورد رمز الثراء والترف، وعلى مقربة من جادة الشانزليزيه حيث الفنادق الفخمة والمطاعم الراقية وأصحاب الياقات المنشأة بترف الثروة والمال والأضواء المبهرة. أما ما ينفق على كلاب أوروبا فيكفي لانتشال جوعي أفريقيا من وهدة الفقر والبؤس والمرض. لكن لماذا أفريقيا، إنها قارة أخرى وعالم آخر وبؤس آخر.. أين هي من مشردي ساحة الكونكورد، وأنفاق المترو والشوارع الخلفية في أوروبا نفسها. لم تُعدم الحضارة الغربية ذلك الحس الإنساني وخاصة في مناسبات أعياد الميلاد، حتى لتضع شابة جميلة باقة ورد بيضاء ودمية دب من الصوف في المكان الذي لقي فيه المشرد الأربعيني حتفه تجمداً، لعله يثير بعض الدفء في قلوب الجوعى للدفء الإنساني، أو يعلن عن رفض هذا المأزق الوجودي المتجدد في جدلية الإنسان والثروة، الإنسان وحق الحياة، الإنسان وحق الموت في العراء. لم تُعدم الحضارة الغربية ذلك الحس الإنساني الذي يتوق لتخليد حتى موت المشردين في العراء، لتطالب الجماهير المشردة أو المدافعة عن حقوق هذه الفئات الهامشية بنصب للمشرد المجهول، لعله يُذّكر العابرين في ساحات البذخ بذلك الهامشي المتشرد الذي يموت في العراء تجمدا، بينما تدار أنخاب أعياد الميلاد في غرف الفنادق الفخمة والمطاعم الراقية. لم أكن اعرف كثيرا عن تفاصيل حياة المشردين في باريس حتى قرأت كتاب « عراقي في باريس» لصمويل شمعون، هل كان التشرد إدماناً ورفضاً او موقفاً؟ ربما مثل إدمان معظم المشردين هناك الكحول والمخدرات والنوم في أنفاق المترو وعلى قارعة الطريق. الكاتب العراقي صمويل شمعون، نقل تلك الصورة بطريقة لم تترك مساحة للتعاطف فقط مع أولئك المشردين طوعاً أو قسراً، بل نقل ثقافة المشردين وعلاقاتهم ومشكلات إدمانهم وهذيانهم ورفضهم حتى الحياة الطبيعية، عندما تتاح لهم فرصة حياة تنتشلهم من أرصفة الشوارع والنوم في أنفاق المترو. هل معظم حالات التشرد في أوروبا أو أمريكا اختياراً ربما، وربما كانت نتيجة أيضا لفقدان الأمل بالحياة، وليس بالضرورة قدراً حتمياً، فبلاد الفرص والعمل الجاد والإنتاج الكبير والاستهلاك الواسع، تلفظ أيضاً كل ذوي العاهات النفسية ومدمني الكحول والمخدرات للشارع بعد أن تقدم لهم حساء دافئاً كل ليلة. هم ضحايا أو مدانون، أم تتلبس الإدانة بين خيار التشرد أو جبريته وقسوته وظلاله القاتمة، تلك مسألة أخرى، لكن الثابت أن هناك إنساناً يموت في الساحات العامة من شدة البرد. وهناك زملاء في التشرد يطالبون بنصب للمشرد المجهول، وربما هناك من ينتظر المصير نفسه. وإذا توسعنا في مفهوم التشرد، فلن يكون أي قاطن في بيوت الصفيح أو أكواخ الخشب المتهالكة سوى جزء من حزام التشرد، المؤلم أن يكون بين هؤلاء أطفال ونساء يمكن أن يطلق على المجموع البائس اسم أسرة. وتصبح المسألة أكثر فداحة أن يكون من بين الأطفال من تذوق منذ نعومة أظفاره معنى الحياة القاسية على أطراف المدن الباذخة في أحواش من الصفيح أو بيوت آيلة للسقوط. ليس بالضرورة أن يتجمع المشردون في مراكز المدن، وينامون على الأرصفة، إنهم هناك حتى لو أغلقوا على بؤسهم وفقرهم وجوعهم باباً من خشب أو صفيح. في مجتمعات الثروة، بقدر ما تتراكم الثروات، وتتسامق الناطحات، والأبراج الضخمة والدور الفخمة والأحياء الراقية ومظاهر الترف ونعومة الحياة، يبقى في ظلال الصورة أولئك الهامشيون والمشردون والبائسون. من حسن الحظ أن مجتمعاً مثل مجتمعنا لم يصبح فيه المشرد المجهول ظاهرة، فسمة الأسرة التي تحتوي أبناءها حتى لو عانوا البطالة أو التورط في الإدمان او سواه.. مازالت تعلن عن نفسها في مواقع كثيرة. مازالت الأعراف والقيم الاجتماعية ترفض الوصول إلى حافة المشرد المجهول، ومازال الألم يُطوى داخل البيوت مهما كانت فداحته. ومن الجميل المشرق الذي يبعث ومضة في الحياة، ذلك الخبر الذي نشرته صحيفة الشرق الأوسط قبل أسبوعين تقريباً يعلن عن فريق تطوعي سعودي ينفذ برنامج «بيتي بيتك» لترميم منازل الأسر الفقيرة. أن يتحرك 4000 شاب وشابة تحت عنوان مشروع تأهيل منازل الأسر المحتاجة عبر فرق عمل ونشاط تطوعي، ليس مبعثه فقط أن هناك نفوساً ظامئة لعمل الخير تطوعاً، حتى لو لم تملك كثيراً من المال، ولكن مبعث إضاءته أن العمل التطوعي سمة مجتمع يعالج دمامات الواقع بالممكن.. وهذا الممكن كثير. أثق أن العمل التطوعي في مجتمعنا يحظي بكثير من الاهتمام في النفوس المشرقة بحب الخير والرغبة في تقديم العون بما تملك من علم أو خبرة أو نشاط لتخفف آلام ومتاعب الآخرين، وهي لا تفعل هذا إلا لأنها تشعر بتلك الومضة الداخلية الجميلة التي تشعرها بمعنى وجودها. إنها إضافة جميلة إلى الإنسان الذي يستشعر أن يكون له دور ولو ضئيلاً في التخفيف من دمامات الواقع وبؤس أخيه الإنسان. وأثق أن تلك الومضة الداخلية التي تشرق في تلك النفوس عندما تمسح بعض ذلك الألم عن وجوه تفتقر للأمل هي المكافأة الكبرى التي تجعلها تمضي في نشاطها مسكونة بالرضا ومغمورة بالقبول الجميل، فضلاً عن طلب الأجر والتطلع إلى حسن الجزاء من الخالق. ما نحتاج إليه أن تصبح ثقافة العمل التطوعي جزءاً من ثقافة مجتمع، ليس عمل الخير فقط مرتبط بمن يملك المال، أو يستطيع تقديم التبرعات الخيرية، ولكن يحتاج أيضا إلى أيد تعمل، وخبرات تتحرك تطوعاً، وفريق عمل يضع جزءاً من يومياته في خدمة الآخر بلا انتظار للمقابل أو العائد، لأنه حتما سيظفر بعائد كبير.. ومضة حب ورضا، وإشراقة داخلية، وهل أعظم من هذا الشعور الذي ينبعث من وميض عين تستعيد الأمل وكرامة الحياة.