يحدد المتخصصون الاجتماعيون الهولنديون العاملون في المؤسسات الاجتماعية التي تهتم بالمشردين ثلاثة أسباب تدفع الفرد إلى التشرد، لكن العراقيين الموجودين في هولندا أضافوا سبباً رابعاً لهذه الأسباب الثلاثة. السبب الأول وهو سيكولوجي وسوسيولوجي في آن معاً يتحول بموجبه الشخص السوي إلى شخص متشرد مدفوعاً بعوامل عدة منها عدم قدرته على ترتيب حياته الاجتماعية أو المادية مع انه يعمل ويحصل على مرتب معقول. السبب الثاني هو الإدمان على المخدرات والكحول وبالتالي عدم القدرة على العمل. أما السبب الثالث فهو الفقر وعدم القدرة على دفع مستحقات الحياة كالإيجار والماء والكهرباء وغيرها وتمثل الديون المتأخرة على هؤلاء الأشخاص سبباً جوهرياً للتشرد. السبب الرابع وهو عراقي واستثنائي بطبيعة الحال أضيف إلى هذه الأسباب الثلاثة لوجود لاجئين عراقيين كثيرين مهددين بالطرد من هولندا بسبب عدم حصولهم على اللجوء السياسي على رغم مكوثهم الطويل في هذه البلاد. ولكي نفهم هذه الأسباب التي تجعل من الشخص السوي العامل شخصاً خارج المجتمع لا بد لنا من متابعة الظروف التي تؤدي إلى هذه الحالة الشاذة. يحلل المتخصصون في هذا المجال المشاكل النفسية التي تحول شخصاً ناضجاً ومنتجاً إلى شخص مريض يتسكع على الأرصفة ويلتحف أرضية المحطات كمأوى غير ثابت بالاستعانة بتاريخ الشخصية والظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها المريض. وغالباً ما تكون العزلة والوحدة وضغوط العمل سبباً مباشراً في انهيار الفرد، إذ إن المواطن الهولندي أو أي شخص يعيش هناك يذهب إلى العمل مبكراً قبل شروق الشمس، ويعود من العمل في المساء ويندر أن يرى الضوء خلال هذه الفترة التي تستمر أكثر من تسعة أشهر في السنة. لا يجد الفرد العامل وهو غالباً ما يسكن وحيداً فرصة للحديث عن أموره الشخصية مع أحد، وإذا صادف إن انتهى من أشغاله المنزلية في عطلة الأسبوع وذهب إلى حانة ما فإنه لا يلتقي بأشخاص جدد لعدم وجود الوقت أو لعدم قدرته على بناء علاقات جديدة. هذه الدوامة تعزل الفرد بمرور الوقت وتحوله إلى شخص كئيب ويحصل أن يحدث الانهيار الشخصي لأسباب تافهة وسريعة وفجأة يجد هذا الشخص نفسه في الشارع وينتهي كل شيء. من جانب آخر يلجأ الكثير من الأفراد إلى الكحول والمخدرات للتخلص من هذه المصائر التي تبدو لأول وهلة غير قابلة للتغيير، لكن النهاية التي يصل إليها هؤلاء الناس تبدو كارثية إلى درجة لا يمكن معها إصلاح أي شيء. إن مجرد بقاء المرء في الشارع لمدة قصيرة كفيلة بجعله مشرداً إلى الأبد، وهو الشعور الذي سوف نعرفه من شباب عراقيين عاشوا هذه المأساة وما زالوا يعيشونها إلى الآن لأنهم مهددون بالطرد من هولندا لعدم حصولهم على الإقامة الدائمة أو الموقتة. بيوت المشردين يوجد في كل مدينة هولندية كبيرة عدد من البيوت الخاصة بالمشردين يأتون إليها للنوم فقط ابتداء من الساعة السابعة مساء ويغادرونها في السابعة صباحاً مع دفع مبلغ ضئيل لا يتجاوز ثلاثة يورو لليوم الواحد. يحصل المشرد على مرتب أسبوعي لا يزيد عن خمسين يورو يتدبر به نفسه ولا تتغير هذه الحال إلا إذا حصل المشرد على مكان للسكن مع عنوان دائم من اجل أن يسترد حياته السابقة. لكن ذلك يبقى صعباً لأن المشرد يتدهور نفسياً وصحياً في شكل سريع ويصعب أن يعود إلى حياته السابقة دون مساعدة من الأسرة والأصدقاء، لذلك فأن عدد الذين استردوا حياتهم من جديد قليل للغاية ومن بينهم العراقي «عبد» الذي استطاع بمساعدة أصدقائه وعائلته العودة إلى الحياة الطبيعية. يشرح «عبد» وهو اسم مستعار وضع المشرد ويقول انه مرحلة أولية للانهيار النفسي وفقدان الروح يتحول معها الشخص إلى كيان مستلب بلا شخصية ولا أحاسيس بمرور الوقت لأن النوم في الشارع في هذا الجو البارد يقتل الجسد ويذيب الروح. إن المشرد يتحول بعد أسابيع من تشرده إلى حيوان مريض ولا يمكن إعادته إلى طبيعته إلا بمساندة طبية واجتماعية صارمة. تشرد «عبد» أكثر من سنة تنقل خلالها بين أصدقائه الذين ما عادوا يستقبلونه بسبب مظهره المرعب وقذارة ملابسه وهيئته التي يبدو معها مجنوناً، لذلك لجأ إلى بيوت المشردين التي تشبه السجن مع نزلاء مجانين أو مرضى. وقد وصلت به الحال إلى التنقل من كنيسة إلى كنيسة بحثاً عن الطعام وأحياناً البحث في القمامة من اجل قطعة خبز وقبل أن ينهار كلياً استضافه أحد أصدقائه لفترة قصيرة في بيته وأقنعه في النهاية بالعودة إلى أهله في العراق مهما كانت الظروف. لاجئون عراقيون مشردون يقول «عبد» استضافني أحد الأصدقاء في بيته وسمح لي باستخدام عنوانه لكي أتلقى راتباً ثابتاً وهذه خطوة في غاية الأهمية، وقبل أن اخرج من بيوت المشردين بدأت أرى أشخاصاً عراقيين يتزايدون في هذه البيوت. كان يسألهم عن السبب الذي جعلهم يأتون إلى هذه الأماكن وكانت أجوبتهم متشابهة: لقد طردنا من معسكرات اللجوء وليس لدينا أوراق والهولنديون يريدون أن يعيدونا إلى العراق. لقد لجأوا إلى هذه البيوت بعد أن اعتذرت الكنائس وبعض المؤسسات الاجتماعية عن استقبالهم بسبب أعدادهم التي بدأت تزداد في شكل سريع. لكن هذا الحل الموقت وغير المجدي سيزيد من معاناتهم النفسية المضطربة أساساً وقد يكون وبالاً عليهم في النهاية. التشرد والجريمة عرف «عبد» في بيوت المشردين كثيرين من المجرمين الذين دفعتهم ظروف التشرد والجوع إلى السرقة وارتكاب جرائم كبيرة تصل إلى القتل من اجل الحصول على المال أو المخدرات. المجرمون هؤلاء لن تتاح لهم أدنى فرصة للعودة إلى المجتمع بسبب ماضيهم العنيف، وحتى حينما يخرجون من السجون فأن مصيرهم الشارع أو بيوت المشردين لأنه غير مرغوب فيهم مهما أبدوا من مشاعر وتصرفات. لحسن حظ «عبد» ان صفحته بيضاء ولو انه بقي يدفع ديونه في شكل منتظم لما وصل إلى هذه الحال. يقول «عبد» موجهاً النصيحة إلى اللاجئين العراقيين المشردين في هولندا: عودوا إلى أهلكم في العراق قبل أن تصابوا بالجنون والضياع، اذهبوا إلى أي مكان أخر ولكن لا تبقوا في هذه البيوت لأنكم لن تخرجوا منها سوى حيوانات مريضة.