تنتشر ظاهرة التشرّد في المدن الكندية بنسب متفاوتة، وفي طليعتها مونتريال التي تضم العدد الأوفر ممن لا مأوى لهم ويفترشون الأرض صيفاً وشتاء. ولمعالجة هذه الظاهرة «الشاذة»، أجرت هيئات حكومية وبلدية وأهلية دراسات وافرة، واتخذت إجراءات متعددة يساندها آلاف المتطوعين من المنظمات الإنسانية والمجتمع المدني. إلا أن «جمهور المشرّدين» لا يزال يبدي مقاومة عنيفة لأية محاولة ترمي إلى إعادة تطبيعه واندماجه وتأهيله لحياة أفضل ربما، لأن ثقافة التسوّل والتشرّد استبدت به وتأصّلت في نفسه وجعلته عصياً على تقبّل أي حل ينقذه من مآسي البرد والجوع والمرض. دراسات ويبدو أن العام الماضي كان حافلاً بالدراسات والإحصاءات التي تناولت حياة المشرّدين في مونتريال. وكان أهمها مبادرة بلدية المدينة التي تمحورت حول دراسة موثّقة بالبيانات والإحصاءات، قدّمت صورة واضحة عن ظاهرة التشرّد واعتماد خطة عمل متكاملة لمكافحتها تستمر حتى السنة المقبلة. وفي هذا الصدد، يوضح دني ديكودير، رئيس بلدية مونتريال، «أن تمضية ليلة في شوارع المدينة خلال فصل الشتاء تجربة صعبة للمشرّدين الذين لا يقدّرون جهود المؤسسات الحكومية والإنسانية، ويرفضون حتى الإقامة في مراكز الاستقبال المُعدة لهم ويعتبرونها كالسجون». ويضيف: «يفترش هؤلاء الأرض في العراء والحدائق العامة وعلى الأرصفة ومداخل دور السينما والمسرح والمراكز التجارية صيفاً. ويقيمون في محطات المترو والقطارات وحافلات النقل العام وفي غرف الأبنية قيد الإنشاء شتاء». وكشف رئيس هيئة التشرّد في البلدية مونيك فاليه، أن «منظمة أهلية غير حكومية تتولّى هذه المهمة»، متوقعاً أن «تكون نتائجها واعدة لجهة تحسين ظروف معيشة المشرّدين وإنهاء ظاهرة التشرّد والتسول خلال السنتين المقبلتين في شوارع مونتريال، لتصبح أول مدينة كندية خالية من أي وجود للمشرّدين في الشمال الأميركي»، مشيراً إلى أن البلدية خصصت أكثر من مليوني دولار كندي لإنهاء مظاهر التشرّد، وستكلّف فريق عمل اختصاصياً لمراقبة تحرّك المشردين والمآوي التي قد يلجأون إليها». وكان مركز بحوث جامعة الصحة العقلية (دوغلاس) في مونتريال، جمع بالتعاون مع هيئات إنسانية واجتماعية، معلومات عن مشرّدي الشوارع في أماكن مختلفة (محطات المترو، الأنفاق، الملاجئ، المنازل قيد البناء، مراكز التسوّق والمطاعم وغيرها). وقدّم استيبانات مفصّلة عن الأسباب الرئيسة للتشرّد. وأظهر هذا الإحصاء أن أعداد المشرّدين تتدنّى عاماً بعد عام. وبعدما كانوا حوالى 30 ألفاً قبل ثلاثة عقود، لم يعد يتجاوز عددهم ال3016 شخصاً، فضلاً عن مئات من «المشرّدين خفية». أما الدراسة التي أجراها حوالى 500 طالبة وطالب من قسم العلوم الاجتماعية في جامعة مونتريال، على مشرّدين يبيتون في العراء ومدمنين على الكحول والمخدرات، فأظهرت أن هؤلاء يتجنّبون اللجوء إلى الملاجئ ودور الرعاية الاجتماعية خوفاً من ملاحقة الشرطة على رغم إصابتهم بأمراض خطيرة. ويعلّق إريك لاتيمران، الباحث في جامعة ماغيل، بقوله: «يجب أن يستند أي حل الى دراسة موثقة ومعمّقة تحدد الدوافع الشخصية والاجتماعية والاقتصادية التي أوصلت المشرّدين إلى الشوارع وامتهانهم التشرّد، وتطلع على حاجاتهم الى المأوى والغذاء والدواء والتأهيل العلمي أو المهني، وتعيد إليهم حقهم في حياة مستقرة كريمة، حتى لا ينتهي بهم الأمر مجدداً في الشوارع»، لافتاً إلى أن هذه الواجبات هي أساساً «مسؤولية سلطة ومجتمع». إحصاءات وتكشف تلك الدراسات عن بيانات إحصائية تفيد بأن 76 في المئة من الرجال لا مأوى لهم ويبيتون في الهواء الطلق، و54 في المئة من النساء يقمن في مساكن موقتة، كذلك 16 في المئة من المجموعات الأتنو - ثقافية، و10 في المئة من المشرّدين المسجلة أسماؤهم في مؤسسات الرعاية الاجتماعية والصحية، و6 في المئة من المحاربين القدامى، و12 في المئة دون ال30 سنة ويعانون من أمراض خطيرة، و11 في المئة من مثليي الجنس، و15 في المئة ممن تزيد أعمارهم عن ال50 سنة وهؤلاء ينقلون إلى المستشفيات بين حين وآخر، و12 في المئة تطاردهم الشرطة في شكل شبه يومي. ولم يقتصر الاهتمام بالمشرّدين على الدراسات الحكومية والأهلية، إنما ساهم فيه مئات المتطوعين الجامعيين (حوالى ألف طالبة وطالب) من خلال تجوالهم في شوارع مونتريال بهدف جمع المعلومات عمن لا مأوى لهم، تمهيداً لمعالجة التشرّد والتسول كظاهرة اجتماعية شاذة. وعلى مرأى من المارة، يتوزّع متطوعون على المناطق والشوارع ذات الكثافة العالية من المشرّدين، ويوجهون إليهم أسئلة محددة كثيرة، مثل: «هل لديك مسكن دائم للنوم؟». «هل هذه هي المرة الأولى التي تمضيها في الشوارع؟»، «ما الذي دفعك إلى التشرّد؟ طلاق، إفلاس، مشكلات عائلية أو صحية أو مهنية؟». كما وقف المتطوعون على آراء بعض المارة التي يلخّصها مسؤول حملة جيمس ماك غريغور بقوله: «معظم الناس متعاطفون معهم، إلا أن المعنيين بملف التشرّد عاجزون عن إزالة هذه الآفة الاجتماعية. ويأملون بمكافحتها وإعادة المشرّدين إلى حياتهم الطبيعية». وفي مبادرة «طريفة وجريئة» قام بهاً أخيراً 5 طالبات وطلاب في جامعة لافال، تتماهى بجوهرها وأسلوبها مع ما سبقها من حملات تطوع واستمرت 4 أيام، بات متطوعان ليلاً في العراء بدرجة حرارة قاربت الصفر، وجمع آخران نهاراً تبرعات ومواد غذائية. وبلغت الحصيلة 2000 دولار وكميات وافرة من الحليب والعصير والخبز والوجبات السريعة. وأعلنت حكومة كيبيك أخيراً، تخصيص نحو 5 ملايين دولار كندي تنفق على مدى 5 سنوات لبناء 500 وحدة سكنية. وتعتزم بلدية مونتريال إصلاح وترميم 1000 وحدة سكنية، والتزامها تقديم وجبات طعام يومية مجاناً، صباحاً وظهراً، لحوالى 800 مشرّد.