أسهمت العديد من العوامل في تطوّر نسَقِ الترجمة من الإيطالية إلى العربية، وبالمثل في تحسّن جودة الأعمال، بعد أن كان التواصل بين اللغتين يعاني من الترجمة الوسيطة، ومن ندرة الأعمال المنجَزة؛ إذ شهد مجال الترجمة من الإيطالية إلى العربية في السنوات الأخيرة تحوّلًا ملحوظًا، انعكست آثاره على الثقافتَيْن العربية والإيطالية. وتعودُ بدايات التأسيس الفعلي للترجمة من الإيطالية إلى العربية إلى المترجم المصري طه فوزي (من مواليد 1896 بالمحلّة الكبرى)، الذي يُعَدّ الرائد الحقيقي للدراسات الإيطالية وللترجمة من الإيطالية؛ فقد قدّم العديد من الإنجازات التأسيسية، تخطّت الثلاثين عملاً، لعلّ أشهرها ترجمة المحاضرة العلمية التي ألقاها لويجي رينالدي في القاهرة (1921)، وظهرت لاحقا بعنوان: «المدنية العربية في الغرب» على صفحات «مجلة المقتطف»، فضلاً عن نقله جملة من الأعمال والكتابات الأخرى، مثل «حياة نيكولا ميكافيلي الفلورنسي» لجوزيبي بريتيزوليني، و»هذه هي اليمن السعيدة» لسلفاتور أبونتي، و»محاسن الإسلام» للاورا فيتشا فالييري، و»واجبات الإنسان» لماتزيني، و»مملكة الإمام يحيى: رحلة في بلاد العربية السعيدة» لسلفاتور أبونتي، وغيرها من الأعمال الأدبية والتاريخية. وضمن هذا السياق التأسيسي يمكن الحديث عن تجربة الترجمة من الإيطالية في تونس في «مدرسة باردو»، التي تأسّست سنة 1840م، وفي «المدرسة الصادقية» 1875م. لعلّها الأقدم من زاوية تاريخية؛ بفعل التواصل المكثّف مع إيطاليا، والقرب الجغرافي بين البلدين، فضلاً عن أعداد الجالية الإيطالية الغفيرة التي حلّت بتونس منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. غير أنّ مجمل الأعمال المنجَزة في المدرستين، التي تناهز الأربعين عملاً، لم تحْظَ بالطباعة والنشر، وبقيت مودَعة في مخازن المكتبة الوطنية ضمن قسم المخطوطات. ومن طرائف تجربة الترجمة التونسية أنها كانت ثلاثية الأطراف من حيث الإنجاز. تجري العملية بإشراف مدرّس اللغة الإيطالية رفقة ضباط وطلاب تونسيين؛ ليختتمها شيخ زيتوني ينزع عنها عجمة اللسان وركاكة العبارة. ففي مدرسة باردو نُحت أول المصطلحات الواردة من الإيطالية مثل «القبطان» من - Capitano- و»فرقاطة» من - Fregata- والبلاد المنخفضة/ البلاد الواطئة من - Paese Bassi-. لكن رغم تلك المنجزات المبكّرة، سواء كان في تونس أو في مصر، لا يمكن الحديث عن نسق متطوّر وثابت عقب تلك امرحلة التأسيسية. استمرّت الإنجازات شحيحة طيلة الفترة المتراوحة بين العام 1922 والعام 1972، لم يُنجِز فيها العرب من أعمال الترجمة الإيطالية سوى خمسين عملًا، أي بمعدل نصّ مترجَم سنويًّا. ولعلّ أبرز إنجازات تلك الفترة ترجمة المصري حسن عثمان لكتاب «الكوميديا الإلهية» لدانتي أليغييري (1959)، في ظرف تكاد تكون فيه القواميس المعنية بلغة دانتي مفقودة في الساحة الثقافية العربية. لكن مع ثمانينيات القرن الماضي، دبَّ شيء من التحفّز حيث تُرجم قرابة الأربعين عملاً، أي بمعدل أربعة أعمال سنويًّا، وخلال العشرية الفارطة بين العام ألفيْن وألفيْن وعشرة ترجم العربُ زهاء المئة وخمسين عملًا إيطاليًّا. وهو ما تكشف عنه دراسة صادرة عن جامعة روما، اعتنت برصد تطوّرات الترجمة بين اللغتين، ووردت ضمن مؤلف «إيطاليا ومصر قرن من الأدب» (2009). يقتضي الإلمام بأوضاع الترجمة بين العربية والإيطالية إيلاء جانب القواميس والمعاجم بين اللغتين متابعة؛ لِما في ذلك من تحفيز لعمل الترجمة، وتحسين لجوْدة المنجزات. إذ يُعدُّ القاموس الإيطالي العربي «فابريكا مانيا» لدومنيكو جرمانو المنشور بروما سنة 1636م الأقدم في تاريخ القواميس التي عُنيت باللغتين. وقد جاء إعداد القاموس بموجب حاجة التبشير المسيحي التابع لحاضرة الفاتيكان لأداة لغوية تيسّر المهمّة. صحيح أن لا يفي القاموس بالغرض لصِغر حجمه (مئة صفحة)، وإنما سدّ حاجة يسّرت التواصل مع الناطقين بالعربية. ويُعدّ «القاموس الإيطالي العربي»، المنجَز من قِبَل أحد رجال الدين الفرنسيسكان، الذي آثر أن يبقى اسمه خفيًّا، ولعلّه من أصول عربية، والمطبوع في مطبعة الآباء الفرنسيسكان بالقدس سنة 1878، مثالًا للقاموس المنجَز لغرض دينيّ جليّ. وقد جاء ظهورُ القاموس في فترة ما فتئت فيها هيمنة الكنيسة على مجال الدراسات العربية والإسلامية في إيطاليا واضحًا. وهو قاموس ضخمٌ، شمل مجالات لغوية عدة (1375 صفحة). وهذا القاموس في الوقت الحالي هو تقريبًا خارج الاستعمال، معروضة نسخة منه في دار الكتب الوطنية في روما. وقد أقدمت مؤسّسة ناصر للثقافة والدار العربيّة الإيطالية «اديتار» في لبنان سنة 1978 على إعادة نشر القاموس المذكور، غير أنّه لم يحْظَ بالاهتمام الكافي من قِبل الدارسين نظرًا للنقائص العديدة التي تضمّنها. فلم يحوِ بين دفّتيه ما استجدّ من مصطلحات ومفردات في اللغتين على مدى مئة سنة، أي بين الطبعة الأولى في إيطاليا والطبعة الثانية في البلاد العربية، كما لم يكلّف الناشر نفسه عناء طبعه بحرف طباعة أنيق. وإن يكن الحافز في إنتاج القواميس ذات الصلة بالعربية دينيّا في البداية، بقصد دعم إرساليات التبشير، فقد تحوّلَ مع تطلّع إيطاليا للتوسّع، كغيرها من الدول الاستعمارية، لخدمة أغراض سياسية؛ إذ شهدت القواميس العربية - الإيطالية انتعاشة، غير أنه سيطر عليها طابع براغماتي لتلبية حاجة عاجلة، كما ركّزت في بنائها على اللهجات الدارجة، على غرار «القاموس العمليّ للعربية المحكية» لأوغو دي كاستلنوفو المطبوع في روما سنة 1912، و»القاموس الإيطالي العربي» المطبوع في ميلانو سنة 1912 لرافائيلي دي توشي. تلا ذلك ظهور قواميس اختصّت ببعض اللهجات الدارجة في البلاد العربية، كشأن قاموس أليساندرو آلوري وجوسيبي سرّانو المنشور في ميلانو سنة 1936، وقد اعتنى بالدارجة الليبية جنب الإريترية والأمهرية، أو كذلك «قاموس العربية المحكية في طرابلس» لأنطونيو شيزارو المنشور في ميلانو أيضًا سنة 1936. لقد تميّز تاريخ الترجمة من الإيطالية، في جانب واسع منه، بمبادَرات فردية، حتى وإن مثّل تأسيس مدرسة الألسن في القاهرة (1835م) مشروعًا مؤسّساتيًّا واعدًا لغرض رصد الحراك الحضاري في الغرب، وإدراك أسباب مناعته وعوامل تقدّمه، وهو ما حاول شيخ المترجمين رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) ترسيخه من خلال خياراته الهادفة في الترجمة. فقد جاءت إنجازات شيخ المترجمين العرب الأردني عيسى الناعوري (1918-1985م)، وكذلك إنجازات الراحل الليبي خليفة التليسي (1930-2010) صاحب القاموس الإيطالي العربي الشهير، نابعة عن مبادرات فردية بالأساس؛ إذ افتقد الجانب العربي إلى رهان مؤسّساتي واضح المعالم، يرعى عمليات الترجمة من لغة دانتي، بما جعل ترجمة الأعمال الإيطالية يطغى عليها طيلة مرحلة الستينيات وإلى حدود التسعينيات من القرن الماضي اعتماد لغة وسيطة. ضمن هذا المسار المتحوّل ثمة جانب إيجابيّ في مجال الترجمة من الإيطالية، حصل منذ إنشاء «مشروع كلمة للترجمة» في أبوظبي؛ إذ أنجزت المؤسسة زهاء الخمسين عملاً من الإيطالية خلال مدّة وجيزة، تابعتُ جميعها بالمراجعة والترجمة، وذلك ضمن استراتيجية شاملة حاولتْ أن تغطّي مجالات عدّة، أدبية وتاريخية وفنية، ولم تغفل كذلك عن الأعمال الموجَّهة للناشئة أيضًا. في العقود الأخيرة تدعّم تدريس اللغة والآداب الإيطالية في العديد من الجامعات والكليات العربية، في تونس والمغرب ومصر والمملكة العربية السعودية؛ وهو ما سمح بتطوُّر أعداد الملمّين باللغة الإيطالية والثقافة الإيطالية، وهو ما يبشّر بتطوّر في مجال الترجمة بين اللغتَيْن في المستقبل المنظور. تشكّلت نخبة من المترجمين، نذكر منهم سلامة سليمان، ومحب سعد إبراهيم، وسوزان إسكندر، وعامر الألفي، ثم تلَتْهم في وقت لاحق مجموعة متماثلة في التكوين من مدرِّسي اللغة الإيطالية والأدب الإيطالي في بعض الجامعات العربية، منهم الأساتذة عماد البغدادي وحسين محمود وأحمد الصمعي والدكتورة أماني حبشي. ومع موجة الهجرة إلى إيطاليا، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، برز ثلّة من التراجمة، يقيمون في إيطاليا، مثل الفلسطيني وسيم دهمش والعراقي عدنان علي والتونسي عز الدين عناية والمصري ناصر إسماعيل وآخرين. والملاحظ في أعمال الترجمة من الإيطالية انشغالها بشكل عام بالترجمة الأدبية، ولاسيما الأعمال الروائية، وتقلص ترجمة الدراسات الفكرية والأعمال التاريخية والمؤلفات الحضارية، فضلاً عن ندرة التركيز على ترجمة الأعمال المعنيّة بالتخصصات العلمية، مثل علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والعمارة وما شابهها. مع أن هناك اهتمامات كبرى في إيطاليا بتاريخ البلاد العربية القديم والحديث، لا تواكبها متابعة من جانب أعمال الترجمة العربية. وعلى سبيل الذكر نشير إلى العمل التاريخي المهمّ «في أصول العرب: رحلة في آثار العربية السعودية» لرومولو لوريتو الصادر عن دار موندادوري بميلانو (2017)، وأعمال المؤرخ ماريو ليفِراني التي اهتمت أيما اهتمام بالتاريخ القديم للبلاد العربية. أحصت أستاذة الأدب العربي في جامعة روما إيزابيلا كاميلا دافليتو في كتاب صادر في إيطاليا، بعنوان «إيطاليا ومصر قرن من الأدب» (2009)، زهاء الثلاث مئة عمل عربي مترجَم إلى الإيطالية، ثلثاها تقريبًا من المؤلّفات المصرية. وسعيتُ من جانبي إلى ضبط قائمة بالأعمال الإيطالية المترجَمة إلى العربية، تبيّن لي فيها وإلى غاية تاريخنا الحالي أنّ الأعمال المنجَزة لم تتجاوز 340 عملاً، توزّعت بين 250 عملاً أدبيًّا، و43 عملاً مسرحيًّا، و47 عملاً، غطّت مجالات متنوّعة في العلوم الإنسانية والاجتماعية والفنية. لقد أسهمت الجوائز في تنشيط العمل الترجمي من الإيطالية، نذكر على سبيل المثال: الدفع المهم الذي مثّلته جائزة الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمية للترجمة من سائر اللغات، فضلاً عن جوائز أخرى. فضلاً عمّا قامت به بعض مؤسسات الترجمة من إنجازات مرموقة وحثيثة، وقد بات «مشروع كلمة» في أبوظبي في صدارة تلك المشاريع، وهو ما بوّأه للفوز بجائزة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمية للترجمة في دورتها الخامسة.