إن الانسجام والاتساق من المفاهيم الكبرى في نحو الخطاب، ويتواتر في الدراسات اللسانية النصية استعمال هذين المفهومين بين الدلالة المنطقية للكلام، والدلالة النحوية أو التركيبية. ويقصد بالاتساق «ذلك التماسك الشديد بين الأجزاء المشكلة لنص/خطاب ما، ويهتم فيه بالوسائل اللغوية (الشكلية) التي تصل بين العناصر المكونة لجزء من خطاب، أو خطاب برمته». إذاً هو جهاز من الروابط المتناسقة معجماً، وتركيباً، ودلالة، حيث تتحد في جملة من المكونات اللغوية التي تتجه لتحقيق مقاصد تواصلية معينة، «بحيث يتطلب بناء الانسجام من المتلقي صرف الاهتمام جهة العلاقات الخفية التي تنظم النص وتولده»، باعتبار النص «كلاً نسقياً أجزاؤه كلها في انسجام». وفي هذا الصدد نتناول مظاهر عد الانسجام المعجمي في نص (معك عرفت أن الأرض مسطحة)لغادة السمان، حيث إن هناك مفردات معجمية تختص بحقل معين من حقول اللغة وفي المعجم اللغوي بشكل عام، لكنها في هذا النص وردت في حقل لغوي مختلف؛ مما جعل هذا النص يندرج ضمن النصوص غير المتجانسة منطقياً، لكنها متجانسة دلالياً. هذا النص جاء في عشرة مقاطع، استقينا من خلالها ثلاثة مقاطع ورد فيها عدم انسجام معجمي بشكل ملحوظ: المقطع الأول: يا غريب ... لا تصدقني حين أقول لك أنني نسيتك ... وأن صدرك لم يعد وكري وأن عينيك لم تعودا أفقي وأن غضبك لم يعد مقصلتي ... فقلبي ما يزال كرة ذهبية تتدحرج على سلالم مزاجك وساحات الصحو والمطر في أيامك ... فمفردة (القلب) ومفردة (الكرة الذهبية) غير منسجمة من الناحية الأجناسية، فعندما ترد مفردة (تتدحرج على سلالم..) هنا يتحول أفق توقع المتلقي من المعنى المنطقي، ويصطدم بالمعنى اللامنطقي، وهي مفردة (مزاجك). المقطع الثاني: ولا تصدقني، حين أقول لك: انتهينا.. وأرمي في وجهك كنوزي التي خزنتها كبخيل: رسائلك، وموسيقاك، وعقداً من الياسمين الجاف وقارورة عطر فارغة وشمعة نصف منتهية.. لأنني بعد أن تمضي ألملمها عن الأرض بشفتي وأغسلها بنبيذ أساي.. وأستحيل قصبة مثقوبة.. تصفر فيها رياح الندم.. كذلك في هذا المقطع وردت عبارات غير متجانسة من الناحية المعجمية، وهي في: (ألملمها عن الأرض بشفتي)، فهنا يصطدم أفق توقع المتلقي؛ لأن العبارة غير منطقية ولا متجانسة، لكنها تأويلياً ودلالياً نلتمس بها إبداعاً ومعنى مضمراً. كذلك في الجملة الموالية (وأغسلها بنبيذ أساي)، فالنبيذ مادة سائلة محسوسة، ومفردة (أسى) مفردة معنوية غير محسوسة. المقطع السادس: معك عرفت سكاكين الانتظار، والهاتف الذي يجيء ولا يجيء (الهاتف الذي ينشر الحب في المدينة كالزكام).. معك عرفت أغاني جنيات الشك، والخوف من الزمن، وكنت قبلك لا مبالية كطاحونة هواء وشاردة كسمكة.. معك عرفت أن الأرض مسطحة لأنها ممدودة على طول جسدك وسريرك، وتنتهي عند أصابع قدميك معك عرفت أن الأرض لا تدور.. وإنما تتكوم أمامك كقط وديع لاهث ... وحينما تبتسم تستحيل الأرض حلماً شفافاً وتعوم كالزورق فوق بحيرات قوس قزح ... معك عرفت كيف تستطيع الموسيقى أن تكون حفارة تفجر كل لوعة القلب المرهق.. معك صار جلدي القلق، ووسادتي الوساوس ... ترد في هذا المقطع مفردات معجمية تختص بمعان معينة في معجم الخطاب، ففي كل جملة تجتمع بها مفردة حسية ترتبط بمفردة معنوية، وبذلك يتخلخل التوافق من ناحية النص والمحيط الثقافي عامة، واللغوي خاصة. من هذه الجمل: - معك عرفت سكاكين الانتظار. - الهاتف الذي ينشر الحب في المدينة كالزكام. - وكنت قبلك لا مبالية كطاحونة هواء. - شاردة كسمكة. فالكاتب هنا جمع صفات إنسانية، ووصف بها مفردات لا تحمل هذه الصفات؛ كالجمادات، والحيوانات، وهنا فإن التتابع المنطقي والمعجمي للمفردات يكون غير منسجم. كذلك عندما ترد هذه الجمل: معك عرفت أن الأرض مسطحة لأنها ممدودة على طول جسدك وسريرك، وتنتهي عند أصابع قدميك معك عرفت أن الأرض لا تدور.. وإنما تتكوم أمامك كقط وديع لاهث ... فهل هذه هي حقيقة الأرض فعلاً؟!!!. من الناحية المعجمية والدلالية: لا؛ لكن من الناحية الأدبية تمتاز هذه العبارات بالأدبية الحذقة، وبالخيال الواسع الممتد. أيضاً هذه الجمل: معك عرفت كيف تستطيع الموسيقى أن تكون حفارة تفجر كل لوعة القلب المرهق.. فلا رابط بين (الموسيقى) و(الحفارة) من الناحية المعجمية والدلالية، وبذلك نجد أن هاتين المفردتين تفتقران للانسجام المعجمي الأجناسي على وجه التحديد. معك صار جلدي القلق، ووسادتي الوساوس ... وهنا أيضاً عدم انسجام معجمي؛ لأنه لا يوجد أي ارتباط بين الجلد والقلق، والوسادة والوساوس، من الناحية المعجمية. من هنا تبين لنا أن الخطاب قد يحتوي على الكثير من العبارات غير المتجانسة معجمياً؛ لكنها تكون أكثر تأثيراً على المتلقي من العبارات المتجانسة، وهنا يتضح لنا معنى وقيمة (الأدبية). ** **