خام برنت يصعد 1.3% ويصل إلى 75.17 دولار للبرميل    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    6 فرق تتنافس على لقب بطل «نهائي الرياض»    ناتشو: كنا على ثقة أننا سنفوز على النصر    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    وفد طلابي من جامعة الملك خالد يزور جمعية الأمل للإعاقة السمعية    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    استقالة مارتينو مدرب إنتر ميامي بعد توديع تصفيات الدوري الأمريكي    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    دوري روشن: التعادل الايجابي يحسم مواجهة الشباب والاخدود    الهلال يفقد خدمات مالكوم امام الخليج    منتدى المحتوى المحلي يختتم أعمال اليوم الثاني بتوقيع 19 اتفاقية وإطلاق 5 برامج    «الصحة الفلسطينية» : جميع مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل    اعتماد معاهدة الرياض لقانون التصاميم    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    انطلاق مهرجان الحنيذ الأول بمحايل عسير الجمعة القادم    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الملافظ سعد والسعادة كرم    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    فعل لا رد فعل    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيميوطيقا الأهواء في القصة القصيرة جدًّاقصة ”سريالية” للقاص السعودي حسن علي البطران نموذجًا
نشر في المدينة يوم 05 - 10 - 2011


توطئة:
تعد القصة القصيرة جدًّا نصًّا ميكروسرديا قابلاً لإخضاعه لمجموعة من المناهج النقدية تفكيكًا وتركيبًا، أو فهمًا وتفسيرًا، أو تحليلاً وتأويلاً. والسبب في ذلك أنه نص صغير الحجم، ومحدود الكلمات، يتسم بالاختصار والتكثيف والإيجاز. وبالتالي، يصلح لأن يكون موضوعا للتطبيق البيداغوجي والنقدي، ولاسيما أنه مطية سهلة لتلك المناهج التي تتميز بشساعة التنظير، وكثرة المستويات والمصطلحات، فضلاً عن عمق التطبيق والإجراء، كالمناهج البنيوية، والمناهج اللسانية، والمقاربات السيميائية.
ومن هنا، فقد اخترنا قصة قصيرة جدًّا للكاتب السعودي حسن علي البطران، وهي تحت عنوان: ”سريالية”، بغية دراستها على ضوء سيميائية الأهواء، كما بلورها مجموعة من السيميائيين الغربيين ككريماص Greimas، وجاك فونتاني Jacques Fontanille، وهرمان باريت H.Parret، وآن إينو Anne Hénault...
إذاً، ما هي مكونات الخطاب الاستهوائي في هذه القصة القصيرة جدًا تركيبا ودلالة؟ وما هي خصائصه التكوينية تحليلا وتأويلا؟ هذا ما سوف نرصده في هذه الدراسة السيميائية التي بين أيديكم.
* الفرش النظري:
يمكن الحديث عن مجموعة من المشاريع السيميائية كسيميائية الفعل والعمل مع كريماص وأعضاء مدرسة باريس وجماعة أنتروفيرن Groupe Entrouverne، وسيميائية الأهواء مع كريماص وجاك فونتاني Jacques Fontanille في كتابهما القيم:” سيميائية الأهواء”، وسيميائية الكلام الروائي مع الباحث المغربي الدكتور محمد الداهي، إلى جانب مشاريع سيميائية أخرى كسيميائية التأويل مع بول ريكور Paul Ricœur، وسيميائية التشاكل مع فرانسوا راستيي F.Rastier، وسيميائية الإيحاء مع أوريكشيوني Catherine Kerbrat-Orecchioni...
هذا، وتقترن سيميائية الأهواء بالذات وحالات النفس الفردية في مقابل سيميائية الأشياء والعالم الخارجي. وقد سبق لكريماص أن تناول سيمائية الأهواء، وخاصة هوى الغضب، ضمن كتابه: “المعنى، الجزء الثاني”، وذلك بدراسة برامج حكائية وسردية، فاستخلص منها ثلاث مكونات سردية: الحرمان والسخط والعدوانية. لكن سيميائية الأهواء لم تخضع للتقعيد وإعادة البناء إلا في العقود الأخيرة، إذ خاض فيها بعض السيميائيين بروح علمية، وخصصوا لها كتبا مستفيضة .
ومن بين أهم هؤلاء الدارسين السيميائيين، نذكر كلا من: هرمان باريت H.Parret في كتابه:” الأهواء: بحث حول تخطيب الذاتية”، حيث أولى أهمية كبرى للذات، وذلك بدراسة مكون التجلي والتمظهر، وإعادة النظر في البنية العميقة، وربطها بالذات أو النفس الفردية، واستجلاء الأفعال الانفعالية عبر الدراستين: النفسية والتداولية اللغوية ضمن المسار التوليدي الاستهوائي.
هذا، وقد انطلق باريت في دراسته للأهواء من ثلاثة مستويات منهجية: المستوى المورفولوجي للأهواء (يعتمد باريت هنا على النص لا على الوحدات المعجمية)، والمستوى التركيبي، ومستوى التخطيب. وقد توصل باريت إلى أن هناك ثلاثة أصناف من الأهواء: الأهواء المتقاطعة، والأهواء الانتعاظية، والأهواء الحماسية. وقد ركز باريت كلامه على الذات المستهوية والذات المضادة، فتعرض لمركب الأهواء، ثم الحديث عن التوازن العاطفي والتعويض. كما تطرق إلى آليات التخطيب، وأشار كذلك إلى أفعال الكلام وعمليات التلفظ، واستحضر القوة الإنجازية لتخطيب الانفعالات والمشاعر.
ومن جهة أخرى، فقد قام كل من كريماص وجاك فونتاني Jacques Fontanille بإصدار كتابهما القيم:
”سيميائية الأهواء”. وتتعلق هذه السيميائية بعالم الذات والهوى والانفعال، وكل ما يتعلق بالرغبات والأهواء كالحب والكراهية والحزن والسرور والانفعال والكدر والهم والغم... ويتضمن الكتاب سيميائية جديدة متعلقة بالبعد الانفعالي، وهي سيميائية مستقلة عن السيميائية العامة، كما يشتمل الكتاب على قسمين: نظري وتطبيقي.
وقد تبين، من الناحية النظرية، بأنه إذا كانت سيميائية العمل مع كريماص تهتم بالفعل في علاقة بالموضوع والتحولات وبنية العوامل الست، فإن سيميائية الأهواء تهتم على العكس بالحالة الفردية، وتعنى بالذات الانفعالية في مقابل عالم الموضوع والأشياء. ويعني هذا أن هناك سيميائية تهتم بالأشياء، وسيميائية تهتم بالحالة النفسية في علاقة بتلك الأشياء.
وعلى مستوى التطبيق، فقد درس الباحثان هويين مختلفين: البخل والغيرة اعتمادًا على معياري التركيب والدلالة، سطحًا وعمقًا، مع الاستعانة بمجموعة من الخطابات كالخطاب المعجمي، والخطاب الأدبي، وخطاب علماء الأخلاق، وذلك من أجل تصيد الاستخدام الفردي والجماعي لهوى البخل وهوى الغيرة، باعتبار أن الهوى أساس الدلالة، كما يعد كذلك المولد الفعلي لكل التمظهرات الخطابية والنصية.
وفي هذا الإطار أيضًا، يمكن الحديث عن العامل الانفعالي والفاعل الاستهوائي، والتقويم الأخلاقي على مستوى التمجيد المعرفي والأكسيولوجي. وفي هذه الحالة، يقوم الفاعل داخل النص السردي بدور انفعالي أو استهوائي. ويعرف كل من كريما وجاك فونتاني الدور الانفعالي بقولهما: ”مقارنة مع الأدوار العاملية التي يخضع ترابطها لتتابع التجارب والموجهات، فإن الدور الانفعالي يظهر عمومًا بوصفه مقطعًا من المسار العاملي، ويصبح ديناميًا بواسطة التركيب البين- جهي. إن التلفظ – الذي يروم التخطيب- يعتمد على المقاطع الجاهزة والمقولبة للتعبير عن المناطق الحساسة في المسار العاملي”.
وعلى الرغم من صعوبة الفصل بين الفاعل الموضوعاتي والفاعل الانفعالي، فيمكن التمييز بينهما بشكل واضح ودقيق، فما يفصل بينهما أن: ” تجلي الدور الموضوعاتي يخضع قطعًا لانبثاث الموضوع في الخطاب، في حين أن تجلي الدور الانفعالي يخضع لمنطق الأشباه الاستهوائية، وللانبثاث الخيالي المستقل عن الموضوع.”
ويضيف كريماص وجاك فونتاني إلى الدور الاستهوائي / الانفعالي ما يسمى بالدور الأخلاقي:” ففي الزهو، يتحدد الدور الأخلاقي الأول على نحو مستقل عن التجلي الاستهوائي، وذلك انطلاقًا من تقويم تحققي (رأي مبالغ فيه). أما الدور الأخلاقي الثاني، فيتحدد انطلاقا من التجلي الاستهوائي نفسه (المغالاة)”.
وعليه، فالفاعل الاستهوائي هو الذي ينجز مجموعة من الوظائف الانفعالية في شكل أحاسيس وانطباعات ومشاعر وجدانية وعاطفية. وبالتالي، تخضع تلك الأهواء للمعايير الأخلاقية المتعلقة بثقافة المتلقي الممكنة.
ويمكن الحديث أيضًا عن آن إينو Anne Hénault التي أصدرت كتاب: ”السلطة بوصفها هوى”، وقد ميزت فيه بين سيميائية الهوى وسيميائية العمل، حيث تقول إينو: ”مما لاشك فيه أن كريماص يعطي الأولوية للعمل (ليس فقط على مستوى تاريخ أفكاره، بل كذلك على المستوى الإبستمولوجي) في تمفصل سيميائية العمل وسيميائية الهوى، وذلك لأن تحليل كفاية الذات الإبسيتمولوجية الفاعلة هو الذي يفضي إلى قضية الهوى أو قضية الأهواء.”
ولقد اختارت إينو، على مستوى التطبيق، أن تدرس يوميات روبير أرنو داديلي R.A.D'Adilly، وذلك عبر الفترة الممتدة زمنيا من سنة 1614 إلى سنة 1632م، ويبلغ عدد صفحاتها (1200) صفحة.
هذا، وقد اختارت إينو أن تبحث عن سيميائية الأهواء عبر دراسة تطورية دياكرونية لمختلف الفواعل التاريخية، وهي تتفاعل مع الأحداث، مع رصد مختلف الردود الانفعالية والاستهوائية تجاه الحكم والسلطة والمجتمع، وذلك انطلاقًا من تصورات ورؤى سوسيولوجية وأنتروبولوجية. وقد استخلصت إينو من دراسة حالة السلطة عبر ثنائية الجذب والقوة إلى أن هناك ثلاث حالات سيميائية للأهواء: الانتقال من حالة الحبور والتقدير إلى حالة الخيبة والفشل في إقرار السلم، مرورا بحالة التنبيه الشرعي وفقدان الهيبة.
وعليه، فقد ركزت هذه الكتب المذكورة على سيميائية الأهواء تركيبا ودلالة، سطحًا وعمقًا، لسانًا وكلامًا، وذلك بالاعتماد على خطابات متنوعة: معجمية، وأدبية، وسياسية، واجتماعية، وأخلاقية... وكل ذلك من أجل البحث عن المعنى وآثاره، والتقعيد لبنية الخطاب الاستهوائي كما يتجلى في الخطابات المدروسة والمنجزة.
نص الانطلاق:
كتب القاص السعودي حسن علي البطران في قصته:” سريالية” ما يلي:”نظر إليه.. فلما رآه بصق على الأرض” ..!
تقطيع النص:
إذا حاولنا تقطيع هذه القصة القصيرة جدا، فسنجد أنها تتكون نحويا وتركيبيا وطبوغرافيا ودلاليا من أربعة مقاطع صغرى في شكل جمل متتابعة ومتراكبة ومتوالية:
1- مقطع عنواني: ”هذه سريالية”.
2- المقطع الأول: ”نظر إليه”.
3- المقطع الثاني: ”فلما رآه”.
4- المقطع الثالث: ”بصق على الأرض..!”
المقطع العنواني:
يتكون المقطع العنواني الأول من جملة اسمية خبرية مثبتة تتكون من مبتدأ محذوف تقديره ”هذه”، وخبر ذلك المبتدأ هو “سريالية”. ويعتبر النص القصصي بكامله خبرا لهذه الجملة العنوانية. وبالتالي، فالعنوان قد ورد في شكل جملة بسيطة تتكون من محمول متأخر حالي واحد “سريالية”، وموضوع غائب غير شخصي في شكل متقدم موضوعي. ويعني هذا أن القصة بكاملها على المستوى الدلالي عبارة عن حالة سريالية. ويرد العنوان المحمولي كبؤرة أساسية؛ لأنه يحمل في طياته معلومة جديدة إلى الموضوع المتقدم المعروف ”هذه”. هذا، ويعرف النحو التداولي الوظيفي (فان ديك Van Dijk) البؤرة بأنها التي:” تسند إلى المكون الحامل للمعلومات الأكثر أهمية أو الأكثر بروزا في الجملة.”
ويعني كل هذا أن العنوان يتكون من محورين مكملين: محور المعطى أو محور المسلمة ”هذه”، ومحور الجديد أو الإضافة ”سريالية”. وتعتبر كلمة سريالية هي الكلمة المحورية والبؤرية في القصة، وعليها مدار الدلالة والتوليد والتحول سطحا وعمقا. ويمكن القول كذلك: إن اسم الإشارة المحذوف افتراضا وتقديرا ”هذه” بمثابة المتقدم، أما كلمة سريالية، فهي بمثابة المتأخر. والمقصود من هذا تداوليا أن: ”المتقدم هو الشيء المتحدث عنه الذي يفترض المتكلم معرفة المخاطب له، والمتأخر هو الجزء المتمم للجملة الذي يضيف إلى معلومات المخاطب السابقة معلومات جديدة تتصل بالمتقدم، والمسلمة هي ما يقدمه المتكلم من معلومات يدركها السامع من مصدر ما في المحيط (أي المقام، أو النص السابق)، والإضافة ما يقدمه المتكلم من معلومات لا يدركها السامع من مصادر أخرى.”
ونستنتج، مما سبق، أن هذه الجملة العنوانية جملة خبرية ابتدائية مثبتة خالية من المؤكدات، كما أنها تقريرية خاضعة لمنطق التعيين المباشر والحرفي Dénotation. ويعني هذا أن الجملة تقدم معلومة إضافية وخبرا جديدا قد يدفع المخاطب إلى الشك وسوء الاعتقاد، مادامت الجملة خالية من المؤكدات التي تزيل كل شك وظن.
أما إذا انتقلنا إلى دلالات كلمة السريالية، فتحيل على الفوضى والجنون والعبثية السالبة، والتمرد عن الواقع، والثورة على نواميس العقل والمنطق والأخلاق. وقد ارتبطت الكلمة أيما ارتباط بمدرسة فنية إبداعية في مجال التشكيل والشعر والمسرح. وقد تبلورت هذه المدرسة كرد فعل على التيار الواقعي والطبيعي، وامتحت تصورها من سيكولوجية فرويد القائمة على اللاشعور والعقل الباطن، واستلهام الذاكرة والأحلام. وقد ظهرت هذه الحركة السريالية فعلا في سنة 1919 م، ونضجت في العشرينيات من القرن الماضي. ويقول أندري بريتون في إعلانه الشهير أن السريالية هي: ”الحركة الذاتية للنفس بصورة نقية خالصة”.
المقطع الأول:
يتكون المقطع الافتتاحي: ”نظر إليه” من جملة فعلية خبرية ابتدائية تقريرية ومثبتة. وهي جملة بسيطة تتركب من محمول فعلي واحد (نظر)، وموضوع اسمي واحد شخوصي مغيب (الفاعل المجهول الغائب الذي يحيل عليه الضمير الشخصي” هو”)، والمفعول غير المباشر الذي يتمثل في الجار والمجرور(إليه). أي تتكون الجملة من فعل وفاعل ومفعول. وتستوجب هذه الجملة هنا حضور السارد والمسرود له، وذلك عبر رؤية سردية من الخلف la vision en arrière قوامها: حياد الراوي، واستعمال ضمير الغياب، والتسلح بمعرفة كلية مطلقة. كما يستعمل الكاتب ضمير الغياب، والذي يحتمل أن يكون شخوصيًا أو غير شخوصي (قد يدل على الشخص أو الجماد أو الحيوان أو النبات):
المقطع الثاني:
أما المقطع الثاني من القصة القصيرة جدا، فيتمثل في جملة ” فلما رآه ” ، وهي جملة فعلية مركبة مع الجملة الثانية :” بصق على الأرض” ، وهي مسبوقة بلما التي تقتضي ترابط جملتين، تكون الأولى منها مبدوءة بالفعل الماضي ، و تحمل ” لما” هنا دلالات التسلسل والاتساق والربط الزمني. ومن ثم، فهذه الجملة المركبة تتكون من محمولين فعليين: رأى وبصق.
وإذا تأملنا جملة :” فلما رآه”، فهي بمفردها جملة بسيطة تتكون من محمول فعلي: رآى، وفاعل في شكل ضمير غائب قد يكون شخصيا أو غير شخصي، بالإضافة إلى مفعول به مباشر يتمثل في الضمير المتصل:” الهاء”، والعائد على موضوع من جنس المذكر. ومن هنا، فهذه الجملة القصصية تستحضر الحدث (الرؤية)، والعوامل: الذات والموضوع، والزمان (لما + الماضي). ويقترن كل هذا بتجذير الحضور في المكان والزمان معا.
أما إذا انتقلنا إلى دلالات كلمة ” رأى”، فسنجد اللكسيمات التالية: الرؤية- الرؤية بالعين- العلم- النظر بالعين والقلب- الرعي- الإخبار... ويعني هذا أن كلمة رأى تدل على الرؤية البصرية الحسية بالعين والرؤية الوجدانية بالقلب، مع وجود العلم ودقة الاستخبار. ويعني هذا أن الرؤية أكثر اتساعا من النظر، لأن النظر مقصور على البصيرة السطحية الحسية الخارجية، بينما الرؤية ترتبط بالداخل(القلب) والخارج(العين). وتستلزم الرؤية العلم، وتملك المعرفة والخبر في التعامل مع الآخر، والتواصل معه.
المقطع الثالث:
يتمثل المقطع الثالث في جملة:” بصق على الأرض” ..!، وهذه الجملة بدورها جملة بسيطة ذات محمول فعلي واحد (بصق)، متبوع بفاعل إنساني يتميز بالمقومات التالية: + إنسان + حي+ مذكر+ متحرك + باصق+ غير متخلق.. أما الموضوع المستقبل للبصق، فيكمن في الأرض، ويؤشر هذا الفعل التنفيذي للفاعل / الذات على السخط والغضب والكراهية والحقد والعدوان. وبالتالي، يتضح لنا من هذه القصة القصيرة جدا أن الفاعل/ الموضوع يملك قوة تنفيذية عالية وسلطة قاهرة (البصق)، بينما المستقبل يبدو ضعيفا لا حول له ولا قوة. أما علامة التعجب باعتبارها علامة أيقونية بصرية تحمل دلالات الاستغراب والسخرية من هذا التصرف الشاذ والغريب.
أما كلمة” بصق” في الجملة الثانية من المقطع الأخير، فتحيل معجميا على المعاني التالية: البزاق- بزق- بسق- طرح الزائد... ويعني هذا أن البصاق كل ما يطرح أرضا، وينزل من الزوائد التي لا قيمة لها. والبصاق فعل مستهجن، وسلوك منحط، ويوحي بالازدراء والاحتقار، ولاسيما إذا كان المحتقر منحطا وكائنا زائدا لا قيمة له. وإذا جمعنا كل الدلالات المعجمية المتشاكلة لكلمة نظر ورآى وبصق والأرض، فسنجد احتقار الذات للآخر في الزمان (لما) والمكان (الأرض). ويعني هذا أن التشاكل الدلالي في هذه المقاطع النصية تتمثل في الاحتقار والسخرية والاستعلاء ، وكل هذا من باب العبثية والعدوان والغرابة.
تركيب استنتاجي:
وهكذا، نصل، بعد عمليتي التفكيك والتركيب، إلى أن القصة القصيرة جدا، والتي كتبها حسن علي البطران تحت عنوان “سريالية”، تعالج موضوعا سيميائيا استهوائيا قائما على رصد مجموعة من الحالات النفسية الذاتية التي تتحكم في العلاقات الموجودة بين الأنا والغير، وتتمثل هذه الحالات الاستهوائية في خاصية الصراع والعدوان والعنف والنبذ والاحتقار والجنون. ومن ثم، فهذه القصة تجسد لنا هوى العدوان، وهوى الصراع، وهوى الاحتقار، وهوى الجنون، وهوى الفوضى في مقابل هوى التعايش، وهوى المحبة، وهوى التواصل، وهوى الصداقة، وهوى الأخوة.
(*) ناقد مغربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.