عُني العرب منذ القدم بلغتهم، وخصوها باهتمام لم تنله أي لغة أخرى. فعلاوة على توغلها في القدم، تتمتع بالتجدد المستمر، وهي الى ذلك اللغة الروحية للمسلمين، لغة القرآن. وأكثر ما كان يخشاه العرب على لغتهم تفشي اللحن فيها، لهذا اهتموا بجمع مفرداتها وتعابيرها وبجمع الشعر والأمثال والحكم، ثم انشاء علوم النحو والصرف والبلاغة والعروض وسواها. وعلى هذا الأساس بدأ النشاط المعجمي باكراً بالنسبة الى العرب. وإن كان يسود الاعتقاد بأن الخليل بن أحمد الفراهيدي ت 175ه كان أول من وضع معجماً لغوياً عربياً سماه "كتاب العين"، فإنه أيضاً أرسى بذلك منهج التأليف المعجمي، فتوالت المعاجم المختلفة لتقريب المعنى للباحث وجعل المفردة في متناول فهمه. صدر حديثاً عن مجلس النشر العلمي في جامعة الكويت معجمان مهمان، الأول بعنوان: "أمرؤ القيس ومعجمه اللغوي"، والثاني: "الأعشى ومعجمه اللغوي"، للباحثة والأكاديمية الكويتية سهام عبدالوهاب الفريح. وتأتي هاتان الدراستان من مشروع "المعجم اللغوي للشعر العربي القديم" بعد نشر الجزء الأول في "حوليات" كلية الآداب وهو "أوس بن حجر ومعجمه اللغوي". أما الدراسة الثانية وهي في طريقها الى النشر في المجلة المعجمية في تونس فعنوانها: "النابغة الذبياني ومعجمه اللغوي". معجم "امرئ القيس" تمّ جمع مفرداته من نسخة الديوان التي قام بتحقيقها محمد أبو الفضل ابراهيم، وهو اعتمد في مراجعة الكثير من ألفاظه على أمهات الكتب التي ورد فيها شعره. وبعد مقدمة تشرح فيها المؤلفة منهجها المعجمي تقدم وقفة مع لغة امرئ القيس وتحدد مكانته في سلَّم الشعراء في الجاهلية وما بعدها، إذ تقول: "ذكره الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائلاً: "سابق الشعراء خسف لهم عين الشعر"، وقال عنه علي رضي الله عنه: "كان أصحهم بادرة وأجودهم نادرة". واعتبره النقاد القدماء "أول من فتح أبواب الشعر، وجلا أبكار المعاني وقرّب المآخذ، ونوع الأغراض، وافتنَّ في المقاصد ووصف الخيل وبكى النؤى والديار". وإن كانت المؤلفة ركزت على واقعية شعره، وعلى الفرس والمرأة في قصائده، والمظاهر الحضارية في غزله، فلتقدم صورة عامة عن الشاعر باختصار قبل تقديم معجمه اللغوي. والأمر نفسه فعلته مع الأعشى، إذْ عَرَّفت من هو، وركزت على أهم المواضيع التي أبدع فيها، من وصف الليل والسواد وانعكاس عاهته في شعره، الى وصف الراح الذي تميز به، الى العقيدة وما يتصل بها، مع أن العاطفة الدينية لم تكن ظاهرة بقوة في الشعر العربي قبل الإسلام، بل كانت مجرد بوادر تغلب عليها حكايات من التوراة والانجيل. ويعتبر الأعشى واحداً من الشعراء القليلين الذين ذكروا ذلك في شعرهم. وتماماً كما فعلت المؤلفة في معجم امرئ القيس تتوقف عند ألفاظ حضارية لدى الأعشى، معتمدة في ذلك نسخة الديوان الذي قام بشرحه وتحقيقه محمد حسين ومراجعة أشعاره على بعض ما جاء من أشعاره في أمهات الكتب العربية. وقامت المؤلفة بفهرسة معجميها بحسب جذور الكلمة المختلفة في العبارات المتشابهة، محللة المفردات اللغوية. ونبهت الى أنها تجاوزت بعض الأدوات التي لا يمثل رصدها أي ضرورة أدبية أو نقدية أو دلالية. وصنفت المفردات التي تم جمعها هجائياً بحسب نظام المعاجم، ونسبت كل مفردة الى قافية بيتها الشعري بكتابة الكلمة التي تشتمل على رويّ البيت، ثم ذكرت البحر، ورقم الصفحة، ورقم البيت الشعري ورقم القصيدة، ثم أوردت المعنى العام لكل مفردة ومعناها في السياق. فنجد مثلاً مفردة "اليوم" تأخذ معنى أول هو وقت مقداره من طلوع الشمس الى غروبها ومقداره أربع وعشرون ساعة في أحد الأبيات. وفي بيت آخر يأخذ معنى زمن مقداره من طلوع الشمس الى غروبها والوقت الحاضر بينما في بيت آخر أيضاً يتوقف المعنى عند زمن مقداره من طلوع الشمس الى غروبها. ونلاحظ كم أن المؤلفة دقيقة في اختيار تفسيراتها، وقد تم تبويب العبارات بحسب ورودها حتى وان تكررت أكثر من مرة. ولأن قصائد الأعشى وامرئ القيس خصوصاً تشمل كل نواحي الحياة في الجاهلية، فإنّ من الفائدة الكبرى الرجوع اليها كمرجع أساس ليس فقط لفهم طبيعة الحياة في الجاهلية من خلال فهم اللفظ أو المفردة من خلال موقعها في الجملة، وانما أيضاً للوصول الى جمع المفردات النوعية في الموضوع الواحد، ومعرفة مدى ثراء اللغة العربية وشساعتها. ومن جهة أخرى يمكن القارئ أن يتحسس استخدام اللغة، والتمعن في استخدام المتداول و"المفاهيمي" منها من حيث الدلالة والخصوبة أيضاً. وإن كان هذا لا يكفي فإننا حتماً سنستنتج السمات الرفيعة لهذه اللغة المتميزة، التي كلما توغلنا فيها قديماً أو حديثاً وجدناها تتسع وكأنها كائن يتوالد في كل الاتجاهات. وان كان المعجمان يستحقان وقفة أطول، فإنهما حتماً نتيجة مجهود كبير بذلته الناقدة سهام عبدالوهاب الفريح، متوخية الدقة والمنهجية في البحث والاستقصاء. وتتحدث الباحثة عن مشروعها قائلة: "تأتي أهمية اعداد معجم لغوي للشعر العربي من الإحساس العميق بأن الشعر العربي، ولا سيما القديم فيه، لم ينل حظه حتى الآن بالتتبع الكامل، والدراسة الوافية، وكل ما لقيه من دراسات كان مجرد تناول جزئي لهذا الكنز العظيم، ولم يفه حقه من الدراسة الشاملة التي يتطلبها الشعر، شكلاً ومضموناً. ويرجع اهتمامي بالشعر وصناعة هذا المعجم الى التقدير بأن الشعر هو فن الحضارة العربية الأول، والى أنه محط الاعتزاز. صحيح أن المستشرقين خدموا شعرنا القديم وأضاءوا بعض الطريق لأوائل دارسينا، ولا سيما في مجالات التحقيق والتوثيق، إلا أن معرفة الشعر العربي تظل مرهونة بجهد العلماء العرب أنفسهم، لأن الشعر شعور وإحساس ولا يدرك أبعادهما إلا الناطقون بهذه اللغة الشعرية، ولأن جذور اللفظة يدركها العربي وحده حق ادراكها أكثر من غيره. وان العمل في هذا المعجم هو عبارة عن قراءة جديدة للشعر، منذ بواكيره. ولأن العمل محيط بالبعد الشامل، سيجد الباحثون ملاذاً لفهم الشعر في اطار الدراسات الأسلوبية والبنيوية الحديثة، التي تهدف الى تحليل النصوص الى مكوناتها اللغوية، وسيخفف عليهم عناء البحث العلمي لمفردات الشعر وارجاعها الى جذورها اللغوية الأصلية بيسر وسهولة. وقد أفرزت عملية التحليل اللغوي لشعر هؤلاء الشعراء في معاجمهم المعنى اللغوي والدلالي. وقد بينتها الدراسات التي تم نشرها في مقدمات المعاجم للشعراء: أوس بن حجر، الأعشى، امرؤ القيس، النابغة الذبياني. ولعلّ ما كشفت عنه هذه المعاجم يثير الكثير من الأفكار والمشاريع البحثية في الدراسة الأسلوبية الحديثة التي تعتمد على تحليل النصوص وردها الى مكوناتها اللغوية، وتمد الدارسين بالمصادر الموثوق بها".