الأزمة التي يعيشها العالم اليوم بسبب جائحة كورونا تمثل تحديًا من نوع مختلف عن السياق الذي كان يسير عليه الاقتصاد العالمي. ففي السنوات الماضية ساد العالم نوع من التكامل بالشراكات، وتوزُّع الاستثمارات، مع التركيز بالاعتماد على دول معينة لتكون هي مصنع العالم أو سلة غذائه. ومع الإقفال الكبير غير المسبوق في التاريخ ظهرت إشكالية توافُر السلع بالأسواق العالمية، وخصوصًا مع تعطل طاقات إنتاجية كبيرة بسبب الإجراءات التي اتخذتها أغلب الدول، إضافة لتوجُّه دول عديدة لإيقاف صادرات بعض المنتجات الطبية، وكذلك سلع غذائية خوفًا من طول أمد الأزمة؛ لأن المواجهة مع عدو مجهول، والمخاوف منه ترسخت بكل المجتمعات دون استثناء بسبب عدم وجود علاج أو تطعيم يقضي على مخاطره. فقبل أيام أعلنت روسيا أنها ستوقف صادراتها من الحبوب حتى شهر يوليو القادم، وهي تعد أول دولة في العالم في تصدير القمح، وكانت قد سبقتها بذلك رومانيا. وأكد هذا التوجه المعهد الأمريكي لبحوث السياسة الغذائية الدولية الذي أوضح أن عشر دول أوقفت صادرات الحبوب منذ منتصف مارس الماضي. ولا يقتصر الأمر على السلع الغذائية، بل أيضًا التجهيزات الطبية التي ارتفع عليها الطلب كثيرًا، بل تعرضت بعض الشحنات إلى قرصنة من قِبل دول. يضاف لذلك المخاوف من النقص بسلاسل الإمداد لمكونات تدخل بصناعة الأدوية، تنتج في الصين؛ وذلك بسبب توقُّف الإنتاج بمصانعها أثناء الفترة الماضية، إضافة إلى توقُّف إنتاج مصانع أدوية صينية، كما توقفت مصانع لسلع ومنتجات مختلفة كهربائية وإلكترونية. فالصين تحولت في العقود الثلاثة الأخيرة إلى مصنع العالم بامتياز بسبب وفرة الأيدي العاملة، وانخفاض تكلفتها؛ الأمر الذي أوصل الصين لتكون ثاني اقتصاد عالمي من حيث حجم الناتج القومي، وتتربع على رأس أكبر الدول بالتجارة الدولية بنحو عشرة في المائة بما يصل إلى 2،3 تريليون دولار أمريكي. إنَّ ما يحدث حاليًا من مخاوف بنقص الإمدادات الأساسية بمختلف أنواعها أسقط من الحسابات الاعتماد على بعض أسس العولمة، ونظرية أن العالم مترابط ومتكامل، وأن ما تريد أن تصنعه تجده في الصين، وأن احتياجك من سلع غذائية كالحبوب يمكن توفيره من الدول الكبرى بالإنتاج، كروسيا أو أمريكا أو أستراليا أو كندا أو الهند وغيرها، بل بات من الضروري التوجُّه لإعادة صياغة وتوسيع مفهوم الأمن الغذائي والصحي، وأيضًا المواد الوسيطة بالصناعة، أي بمفهوم شامل للأمن الاقتصادي من خلال التوجُّه ل»استثمارات الضرورة»، أي أن يتم توجيه أموال تضخ للاستثمار بإنتاج غذائي وطبي، وغيرها من السلع الرئيسية التي يمكن أن تتسبب بتعطيل الاقتصاد أو عدم توافُر السلع الأساسية، بما يمثل نسبة مناسبة من الاحتياج حسب ظروف كل سلعة أو صناعة من حيث الموارد الطبيعية وغيرها، وأن تتحقق النسب المتبقية من خلال استثمارات خارجية ملائمة، وخصوصًا من حيث الأمان؛ فيمكن حتى استئجار جزر صالحة للزراعة من دول لا تستثمرها؛ لتتحول إلى مصدر من مصادر الأمن الغذائي، إضافة لدعم الصناعات الطبية بنطاق واسع لإنتاج العديد من الأدوية والتجهيزات الطبية التي تعد الأكثر طلبًا بالسوق المحلي. فالمملكة تعد من كبرى الدول التي لديها خزن استراتيجي لسلع رئيسية، يكفي لمدد طويلة؛ وهو ما يعطي استقرارًا للأسواق كما هو قائم حاليًا إلا أنه يمكن أيضًا التوسع مستقبلاً في زيادة سعة الخزن لبعض السلع؛ لتغطي مددًا أطول، وخصوصًا أن عالمنا اليوم ليس مستقرًّا. فبخلاف المخاوف المستمرة من نشوب حروب بين قوى كبرى، إضافة لاضطرابات الشرق الأوسط، تظهر بين فترة وأخرى أحداث ذات أثر كبير على الاقتصاد العالمي، كالحرب التجارية التي نشبت بين أمريكاوالصين ودول أخرى، وظهور عامل انتشار الأوبئة المعدية كما هو الواقع الذي نعيشه حاليًا مع جائحة كورونا. قد تكون دراسات الجدوى الاقتصادية لا تعطي مؤشرات إيجابية لنجاح بعض الصناعات أو زراعة وإنتاج سلع غذائية، لكن هذه الأزمة أظهرت الحاجة لاستثمارات الضرورة، ويمكن مع التطور التقني واستخدامات الذكاء الصناعي أن تنخفض التكاليف، وتصبح هذه الصناعات والزراعات مجدية اقتصاديًّا، لكن الأهم هو التوازن بوفرتها ما بين الإنتاج المحلي والاعتماد على الخارج؛ فقد تكون الخسائر بعدم توازن المعادلة أكبر من مخرجات أي دراسة جدوى اقتصادية. فالعالم وإن كان قد بدأ بالتغير منذ سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991 إلا أن أزمة وباء كورونا سرَّعت من مراحل التغيير، واليوم تظهر ملامح العودة للاعتماد الداخلي للدول على نفسها بإنتاج الكثير من احتياجاتها، وخصوصًا الغذائية والطبية.