قد تكون القراءات الاستباقية لتداعيات أزمة كورونا على العالم مبكرة، لكن معطيات عديدة أظهرت بواطن خلل كبير بطبيعة تركيبة الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية التي نتجت عن العولمة التي تم الترويج لها كمستقبل وحيد لا خيار آخر بديل عنه لتحكم العالم، ولكن هذه الأزمة كشفت عمق الخلل الذي تسببت به العولمة؛ حيث تعطل العالم بأسره في غضون أسابيع، وهو أمر لم يسبق حدوثه حتى في أوقات الحروب العالمية الأولى والثانية بالقرن الماضي، وهو ما يفتح الباب على تغير حوهري سينال من العولمة الاقتصادية تحديداً، وقد يؤدي إلى وأدها بمفهومها الحالي. فالعالم خلال العقود الثلاثة الماضية توسع كثيراً بتثبيت قواعد ومرتكزات العولمة الاقتصادية والتي قامت على تسهيل الإجراءات وإزالة المعوقات أمام حرية التجارة الدولية وتدفق الاستثمارات لأسواق المال والاقتصاد الحقيقي مدعومة بتطور وتوسع هائل بوسائل النقل والتكنولوجيا التي طورت ويسرت سرعة تنقل البضائع ورؤوس الأموال، وبما أن الدول ذات الإمكانيات القوية كانت جاهزة لعولمة الاقتصاد فقد توزعت الأدوار بينها وحقق كل طرف منها أهدافه بالهيمنة دوليّاً على النصيب الأكبر من حصص التجارة وأيضاً تدفق الأموال لأسواقها.. فأمريكا باتت أسواقها المالية تستحوذ على استثمارات ضخمة إذ تبلغ قيمتها حوالي 25 % من قيمة أسواق العالم مجتمعة التي بلغ حجمها قبل الأزمة 85 تريليون دولار؛ أما حجم التداول اليومي ببورصات أمريكا فهو يمثل 15 % من حجم تداول جميع الأسواق بالعالم، وهو ما يدعم بالإضافة لعوامل أخرى قوة الدولار، وتمتع البنوك الأمريكية بأحجام سيولة ضخمة جدا جعلت من نيويورك أكبر مقرات البورصات العالمية القلب النابض للنظام المالي العالمي. أما الدور الذي استحوذت عليه الصين فهو ذو ثقل دولي كبير فهي أصبحت مصنع العالم ومركز سلاسل الإمداد لأغلب الدول ومصانع الشركات العالمية وقد برز بهذه الأزمة خطورة تركز التصنيع الكبير بالصين فتعطلها أدى لشلل بالاقتصاد العالمي وهو ما قد يكون له تبعات وتداعيات تعيد النظر بالعولمة لتنتقل إلى عودة المسار للاعتماد الذاتي للدول على نفسها بإنتاج الكثير من احتياجاتها الأساسية منعا لتعطل وتوقف الحياة الاقتصادية فيها، فرغم أن الصين ستحقق قفزات كبيرة باقتصادها مستقبلاً لكن بالتأكيد ستفقد حصة من دورها بالتصنيع عالميا إلا أنها ستركز على الداخل الصيني أكثر لترفع دور المستهلك لديها لتعويض الاعتماد على التصدير الذي تتسيد العالم فيه حاليا إذ لم يعد مقبولاً أن يرتهن العالم لدولة واحدة بالصناعة وسلاسل الإمداد وسيكون لدى الشركات خيارات عديدة من أهمها العودة لتصنيع جزء كبير من احتياجاتها داخل أوطانها وهو ما يعد تغيراً بمفهوم العولمة والعودة للاعتماد على الإنتاج المحلي، وهذا التحوّل المنتطر سيطال دول أوروبا واليابان من حيث دورها الدولي اقتصادياً وكيفية تعاملها مع الواقع القادم الذي سيؤثر عليها سلباً ويضطرها لتغيير جذري في هيكلة اقتصادها وعلاقاتتها التجارية والاسثمارية دولياً إذ لابد من تنشيط أكبر للإنتاج المحلي وأيضاً اعتماد على خيارات عديدة. أما الجانب الآخر لاعتماد أغلب الدول على ذاتها خصوصاً بالاقتصادات الناشئة فسيتركز على تحقيق أمنها الصحي بالتوسع بالصناعات الدوائية والتجهيزات الطبية وكذلك ستبحث عن امتلاك التقنية لتساعدها بزيادة إنتاجها الصناعي والزراعي ورفع جودته فالأزمة الحالية أوضحت خطورة الاعتماد المفرط على بعض الدول في تأمين الاحتياجات الغذائية والدوائية والعديد من الصناعات التي يجب توطينها، لأن مفهوم الأمن الاقتصادي بأبعاده توسع ليشمل صناعات وتجهيزات عديدة. العالم ستتغير مفاهيمه وتوجهاته في حفظ استقراره النابع من استقرار الدول التي كشفت لها الأزمة الحالية بواطن خلل كبير بعولمة الاقتصاد وما ظهر من نقص بالإمدادات واعتماد مفرط على دول معينة تتزكز فيها جل صناعات العالم وخدماته وهو ما يبعث على القلق من امتداد هذه الأزمة لفترة طويلة أو تكرارها بالمستقبل لأسباب مختلفة مما يبقي العالم بحالة عدم توازن وانعدام للاستقرار الاقتصادي ولذلك فإن العالم موعود بعد هذه الأزمة بتحولات كبيرة يسودها الفكر القومي من جديد ويعيد صياغة العولمة وتوسيع مفهوم الأمن الاقتصادي.