أخَذْتُ قارُورةً ممتلئةً، يداي ترْتجِفان، بالكاد أَنْظرُ ما بداخلها، اللون مدهشٌ، يوحي بأنّ الرائحة زكيّة، قَلبْتُها فاندلقَ ماؤها ..كجِلّمود صَخْرٍ حَطّهُ السيل مِنْ علِ، سَقَطَتْ، تَهَشّمَت إلى أجزاء، عِطْرها يَعْبَقُ بالمكان، خُيّل لي بأن الماء تحوّل إلى مَاردٍ، بذقنٍ مهَذّبة، رَبْطَة على رأْسِه تُشَبِه صِمَادة عروس جنوبةٍ في ليلة زواجها، حاولتُ أن اقرؤها بعد تعب وجدتُ كتابة: أنا بُحْتري الباحة من «شُعب صميعة» بين يديك! هنا صممتُ أن أطلب أشياء كثيرة، فأنت أمام حسن بن محمد الزهراني الشاعر بِشَحّمه ولحمة، وإن تدثّر بعباءة مارد فهو الذي ملأ القاروة عطرًا وأشغل الباحة بعطرها نفوذًا.. مهم جدًا حياة الشاعر هذه لأنها تصنع إنسانًا مبدعًا حسّاسًا مرهفًا، أقتنع بالحب فآمن به ونثره على من حوله... لا أخفيكم طلبت أمنيات سرّية للغاية تتضمن أسئلة عن شعب صميعة ووادي الشعر والقرين ورأيه في ذلك، رضا الوالدين من قصة رجل لا يعرفه حين قال «اذهبْ أنت رضي والِدَيْن، زوجته تأتيه في حلمٍ لتنشد بيتين شعبيين وهي لا تجيد قرضه، على أثرها يتزوجها، إلى مجلس شوري عائلي خاص، كل فرد منهم يطرح موضوعًا اجتماعيًا ثقافيًا أدبيًا أمنيًا وقضايا أخرى وطنية تمجّد القيادة الحكيمة؟ تخيلّ عزيزي القارئ نحن نتحدّث عن شاعر داخل بيته، السؤال الآن فكيف يكون تعامله مع خارجه: أصدقاء، زملاء، شعراء، أدباء مفكرون.؟.. نحن أمام حالة شاعرية لشاعر نثر القصيد في كل مكان شاغر هذا إجمالاً وإليكم التفاصيل: عزيزي القارئ من فضلك لا تُحدث صوتًا إلا هَمْسًا، فالموضوع ليس سهلاً، ثقوا أني في حالة احتضار في كَشْف ما قاله لي المارد أقصد بحتري الباحة، لأني سأكشف حياة شاعر شغل الباحة وملأ الناس!شاعر يطلعك على أدق التفاصيل، شاعر يغمرك بالحب وللحب وفي الحب قد يكون هناك قيس لبنى ومجنون ليلى.. وعنترة وعبلة، جميل بثينة.. لكن التاريخ الأدبي الحديث ربما سيتحدث عن بحتري الباحة وبنت خاله زوجته، عشق تبارك الرحمن بينهما، ابتدأ بحلم ولم يزل بحب... حين سألته عن قصة «صميعة «والقرين تبسّم ضاحكًا وأردف: الناس ارتبط مخيلتهم بحكايا الجن ويستكثرون على الشاعر أن يكون إنسانًا مبدعًا دون تدخّل القرين، هناك صنّفان من الشعراء قسم أعجبته قصة ارتباط الشعر بالجن ليضع له حاله هلامية وصنف يرفضون فكرة القرين أصلاً (ومنهم بحتري الباحة). إذًا هو يرفض هذا الارتباط بل ينكره والحكاية خرافة ابتدأت باللبن أو الحليب يشربه الشاعر وفيه شَعْره يراه في الحِلْم وحين يستيقظ يقرض الشِعْر... حسن الزهراني يتفق بأن ذاك من الغزلة توأم الإبداع لا علاقة بها بالجن والقرين، شكرًا أيها المارد على هذا الرأي الذي أتفق معه قلبًا وقالبًا. أما مجلس العائلة مع أبنائه وبناته فهي حكاية تبرز دور الأب الحاسم والحنون في آن واحدة مجلس أشبه بوزارات ومؤسسات دول: هيئة ترفيه من منظور جنوبي بحتري بحْت، مجلس يتم فيها اللعب البريء والترفيه المروّح عن النفس الكل يمارس لعبته وتعلو على الجميع ابتسامات وضحكات تملأ أرجاء البيت، هيئة للثقافة في هذا المجلس، تمارس فيه قراءة أنفس الكتب وأنقاها وأبهاها والشعر طبعًا من ضمنها، ومجلس شوري تناقش فيه أهم القضايا الأُسرية والتصويت نهايتها.. ووزارة تعليمٍ تطلق عنان الأحلام وتحققها «جلس المارد وقلبي ينبض كساعة بيغ بن اللندنية» وأنا في وضع الفرار من قسوره فطن المارد لحمّى خوفي وأكمل بعد أن تنهّد: البيتان الشعبيان اللذان قالتهما زوجتي وبنت خالي وحبيبتي شِعرًا حين حَلِمُت بها وهي في ذلك الوقت لا تقرأ.. بان الهوى والحب يا ناس بي بان وأنا أحسب إن الحب بي ما يبينِ رهنت قلبي خلف سورٍ وبيبان عشقت واحد في البشر ما يبيني في الصباح ذهبت وطلبت يديها ولم أزل أحفظه إلى الآن وكأن الحلم حدث تفاصيله الآن (فجأة ابتسم وقهقه كثيرًا) وقال: اسمع يا سعلي أذكرك بالقصيدة التي أهديها لزوجتي في ذكرى زواجنا يوم 23 / 11 من كل عام وأنشرها في صفحتي في الفيس وحسابي في الواتس وقد جمعت هذه القصائد في ديوان هو الآن تحت الطبع في دار النابغة، (هنا التفت إليّ حزينا حين تذكّر أباه وأمه) وقال: أوّاه يا سعلي البر بالوالدين مهم جدًا فقد أصدرت ديوان أمي رحمها الله. -تتذكر عنوانه؟ - قلت: نعم هو ديوان «ريشة من جناح الذل» الذي أدهش النقاد ومتذوقي الشعر من عنوانه حتى آخر قصيدة فيه، وكتب عنه ما يزيد عن 27 ناقدًا وأديبًا....هنا وقف المارد الحسن البحتري فحأة وهو منتشي (لا أخفيكم أيها القرّاء تظاهرت بالتعب وقطرات هرولت من جبيني تترى مُثعّلبه، ذهبت من عنده أترقّب! قال لي من صوت بعيد: - هل ستأتي يا سعلي مرة ثانية؟ وأنا قد أطلقت ساقيَّ للريح وثوبي في فمي مغادرًا شُعْب صميعة وكأني أسمع المارد ينشد أبيات منها: شِعري وشَعرك يا (صُمَيْعةَ) طَرّزا الأنغامَ حُلْما رَسَمَا على خدّ الجمال برقّةٍ خالاً ووشما نَحَتَا على كبد الظلام لِحَامِل الأحقاد سهما شعري وشعرك يا صميعة شيَّدَا للحب حكما وتعانقا فانثال نور العشق فوق الأرض وَسْمَا نَقِشَا لنا في كل شبرٍ من سماء الطُّهر نجما وإذا استحال الكون آهاتٍ وآلاما وهَمّا مَزَجَا لأرباب التُّقى عسلاً وللباغين سُمّا في الختام عزيز القارئ: بقي حسن الزهراني بحتري الباحة شاعرًا والسعلي كشف حقيقته الإنسانية أبًا حنونًا، زوجًا عاشقًا، حفيدًا يزرع الحب فيهم، إداريًا أوصل مطبوعات نادي الباحة الأدبي إلى نيل جوائز محلية وعربية، صديقًا حمل على عاتقيه جملتين، الحب بالحرف، فردًا في باحته ليصنع وطنًا في بيته ..إذا وصلتم قرّائي إلى هنا فقولوا معي: ما شاء الله تبارك الرحمن! المقال القادم بإذن الله: (الواتساب في زمن الكرونا نعمة أم نقمة) ** **