عندما وضع الدكتور الأمريكي من أصول إيرلندية «جوزيف ميرفي» مؤلفه الشهير «قوة عقلك الباطن» في العام 1961م والذي يعد مرجعاً مهماً في العلوم المعنية بتطوير الذات، أراد أن يخبرنا باختصار شديد أن لعقلنا الباطن قدرة عجيبة على تسهيل حياتنا لو عرفنا كيف نتعامل معه ونسخره لخدمتنا، ما يعني ببساطة شديدة أيضاً، تكليفه بأعمال إضافية لا يقوم بها عادة. وحتى ننجز هذه المهمة ينبغي التعرف على كيفية عمل هذا العقل اللا واعي، الذي يعد مستودعاً للمحفوظات والخبرات بكل تفصيلاتها، ما يؤهله لإنجاز العمليات التلقائية السريعة والتي تسمى أيضاً العمليات الفورية، أمر يجعل الإنْسان، بعد فترة من التعلم واتقان المهارة، يؤديها بتلقائية شديدة، وبسرعة، وبإتقان عجيب، دون تحكم من عقله الواعي، ودون بذله لأي مجهود يذكر، وهو ما نشاهده في قيادتنا للسيارة أو العزف على الآلات الموسيقية أو تأدية بعض الألعاب الرياضية، وقس على ذلك كل المهارات. ولكن ما علاقة كل ذلك بالخيال الذي تبنى عليه أعمالنا الأدبية نثراً وشعراً؟! في الواقع، حتى ندرك ماهية هذه العلاقة، سنعرج أولاً على الخيال الذي عرفه عالم النفس الأمريكي المعاصر «آرثر إس ريبر» بأنه «عملية اتحاد الذكريات والخبرات السابقة والصور التي تم تكوينها مسبقاً وتوظيفها داخل بنية جديدة، وهو عبارة عن نشاط يقوم به الإنسان بكل إبداع وقد يكون مبنياً على أساس رغبات الإنسان أو الواقع الذي يعيشه أو قصص مستقبلية أو مراجعات عن ماضيه، فهو بذلك توقعات الحاضر ومراجعة الماضي وابتكار المستقبل». انتهى كلامه. بالطبع هناك أكثر من تعريف للخيال، ولكنني أميل لهذا التوصيف الدقيق والذي أظنه يتواءم مع ما ذكره «جوزيف ميرفي» تماماً عن قوة العقل الباطن. ما يعنينا هنا أن الكاتب عندما يصنع عمله الإبداعي التخيلي، لا يأتي بشيء من العدم، فهو إما أن ينزل مشهداً كاملاً التقطه من تجاربه السابقة واحتفظ به في عقله الباطن، وعندما احتاجه استدعاه بسهولة وأجرى عليه بعض التعديلات التي تتسق مع الرسالة التي يريد إيصالها كما يحدث غالباً في القصص القصيرة الإبداعية كقصة «وفاة موظف» للكاتب الروسي العظيم «أنطون بافلوفيتش تشيخوف»، أو أنه عمل على تجميع بعض القصاصات والمشاهد الصغيرة وخلق منها مشهداً جديداً لا علاقة له بالواقع ظاهرياً، كأعمال الروائي الأمريكي المعاصر «دان براون» الذي أبهر العالم بروايته العظيمة «شيفرة دافنشي»، بالضبط كما يعمد الموسيقي الحاذق لنغمات «الدو ري مي فا صو لا سي» ويخلق منها ألحاناً إبداعية أصيلة اعتماداً على ترتيبها بطريقة معينة، ووضعها في أزمنة مختلفة متكئاً على أرشيفه الموسيقي المحفوظ في عقله الباطن، فتأتي على هيئة غير مسبوقة، مع أنها كلها لا تخرج إطلاقاً عن السلم الموسيقي السباعي، ولو جزئت لأجزاءٍ صغيرة، لتبينا علاقتها الوطيدة بمعزوفات أخرى قديمة، ويمكن قراءة ذلك أيضاً في ابتكار مركبات كيميائية جديدة تختلف في خواصها اعتماداً على نفس العناصر الكيميائية. كل ذلك يقودنا لأمر مهم، وهو أن باستطاعتنا صنع أعمال إبداعية تخيلية مبتكرة اعتماداً على فكرة «جوزيف ميرفي». فقط علينا تغذية العقل الباطن، بالأشياء التي يحتاجها ومساعدته على اتقان مهمته، فالكاتب المبدع عليه -فيما يتعلق بالخيال- أن يكون حاضر الذهن يتمتع بفضول إيجابي يُمكنه من التقاط الحوادث بجزئياتها الدقيقة وسبر أغوارها، وألا يتوقف أبداً عن مطالعة الأخبار بكل أنواعها ومصادرها بتركيز عالٍ، كما يحتاج لتغذية ذاكرته المكانية والزمانية والاهتمام بمطالعة الصور الفوتوغرافية والرسومات بأشكالها وأنواعها والتمعن فيها كافة، كذلك يحتاج لمخالطة البشر من الشرائح كافة والتبصر في سلوكياتهم وردود أفعالهم وتعاطيهم مع المحفزات، ومن ثم الاجتهاد في تحديد أنماط شخصياتهم وتصنيفهم تبعاً لذلك، الكاتب بخلاف الباقين يجب عليه أيضاً مطالعة الأعمال «الدرامية» المقروءة والمرئية متقمصاً دور المؤلف والمخرج و»السيناريست» ومعايشة أبطال العمل، كذلك يحتاج لقراءة كل ما يقع تحت يده من كتب شتى دون التقيد بعلم من العلوم. إن فعل كل ذلك سيكون بمقدوره تقوية عقله الباطن وجعله قادراً على صناعة الخيال. ** **