في ظني، يقصر إدراك كثير منا عن مفهوم القصة الإبداعية، والتي في محاكاتها ونقلها للواقع المعاش؛ تسلط بقعة من الضوء على أمر نظنه لا يستحق الوقوف عنده، بينما يلتقطه القاص المبدع ويضعه أمامنا، تاركاً لنا اكتشاف ما يتضمنه من معانٍ عميقة لم نكن ننتبه لها. بالضبط كما يفعل المصور الفوتوغرافي في لقطاته الإبداعية. لعل ذلك ما يجعلني أتألم كثيراً عندما أرى القصص غالباً ما تقع بين وضوح ومباشرة وسطحية الخبر، أو الغموض المتناهي للألغاز والطلاسم التي يتفنن بها بعضهم، وقد يجنح جزءٌ منها باتجاه المشاعر دون حكاية واضحة، وبين أولئك من لديه أفكار جيدة لكن مظهرها سيء لافتقارها للأسلوب الأدبي الجميل، ولعل ما يدمي القلب أننا قد نجد كل ذلك مجتمعاً في مجموعات قصصية مطبوعة ومنشورة. وحتى نتلافى هذه السلبيات ينبغي أن نتذكر على الدوام أن القصة بمفهومها الحديث يُشترط لها أركان أساسية عدة، منها الجمع بين التلقائية والبساطة من جهة والعمق من جهة أخرى، واحتوائها على رسالة هادفة، كما يشترط فيها التكثيف والاختزال، وإغلاقها بمفارقة أو دهشة تأتي في سياق متوقع وطبيعي دون تكلف، ويغلف كل ذلك أسلوب أدبي براق يحفظ لها مكانتها في أروقة الأدب. بالتأكيد الجمع بين هذه المتناقضات أمر ليس بالسهولة أبداً، لذلك قلة هم من يستطيعون كتابة القصة القصيرة بمفهومها العصري ولا يخلطون بينها وبين الخبر أو الخاطرة، في وقت يكثر المنظرون حول هذا المفهوم - كما يحدث معي الآن - دون استطاعتهم كتابتها. وحتى نعمق هذه المعاني وندعو لتدبرها سأورد أحد هذه القصص مكتملة الأركان وأتحدث عنها وهي للكاتب الروسي «ليف نيكولايا فيتش تولستوي» والشهير ب«ليو تولستوي» والمنتقاة من مجموعته الشهيرة «حكايات شعبية». يقول «تولستوي» وهو يتحدث على لسان طفلة ((كان عمري ست سنوات، سألت أمي أن تدعني أخيط، قالت لي أمي، ما تزالين صغيرة جداً، ولن ينالك إلا وخز أصابعك، لكنني لم أشأ الاستماع إليها، فأخرجت أمي من خزانتها قطعة من الجوخ الأحمر وناولتني إياها، ثم أدخلت في إبرة خيطاً أحمر وأرتني كيف أمسك بها، بدأت أخيط، لكني لم أتمكن من صنع قطب متساوية، فهذه قطبة كبيرة، وتلك تقع على أطراف من الجوخ وتثقبه، ثم إني وخزت أحد أصابعي، لم أشأ أن أبكي، لكن أمي قالت لي كفى ما بك؟! كان ذلك فوق طاقتي فإذا بي أنخرط في البكاء، وحين رأت أمي ذلك أمرتني أن أذهب لألعب، فلما أويت إلى سريري رأيت طوال الوقت قطباً تتراقص أمام عيني، ولم أكف عن التساؤل، ماذا عليَّ أن أفعل لأتعلم الخياطة بسرعة، بدا لي ذلك صعباً جداً، وكنت أقول في نفسي لن أتعلم أبداً. ليس بوسعي الآن وقد كبرت أن أتذكر ماذا فعلت لأتعلم، وعندما أُعلم أبنتي درساً في الخياطة فإنني أُدهش دائماً حين أراها لا تحسن مسك الإبرة. كما تلاحظون، تُوقفُنا هذه القصة الرائعة على مشهد بسيط كتب بطريقة مختزلة ومكثفة، ظهر وكأنه مباشر وسطحي، بينما هو عميق جداً ويحمل رسالة مهمة، ترشدنا إلى ضرورة العودة بذاكرتنا للوراء واستحضار المرحلة السنية التي يعيشها أبناؤنا والصعوبات التي يواجهونها عندما نهم بتعليمهم أية مهارة، ولأن ذلك غالباً لا يحدث؛ كانت هذه القصة التي تجعلنا نبقى متبسمين بعد الانتهاء منها وتدور كثير من الحوارات بيننا حول أسباب نسيان تجاربنا الصغيرة وعدم التماس الأعذار لصغارنا، بينما تبهر المتخصصين، قدرة «تولستوي» على الانطلاق في روايتها بهذه السلاسة والجمال التي أوصلتها للنهاية التي يبحث عنها وقد استحضرت القارئ حتى يتلقى الرسالة كما يريدها الكاتب دون تكلف أو عناء. في النهاية علينا تذكر، أن القصة التي نبحث عنها هي التي تبدأ قراءتها الحقيقية، بعد الانتهاء منها، وعلى ذلك يمكننا القياس في كتاباتنا ومطالعاتنا، وعندما نتقن ذلك ستصبح الكتابة الإبداعية أسهل بكثير من إيلاج الأعمى للخيط في خرم إبرة. ** **