الكتاب: "العين والإبرة - دراسة في ألف ليلة وليلة" المؤلف: عبدالفتاح كيليطو الناشر: دار "شرقيات" - القاهرة 1997 يعكف الناقد والباحث المغربي عبدالفتاح كيليطو منذ ما يقارب عقدين من الزمن على دراسة السرد في التراث العربي مستخدماً في دراسته خلاصة ما توصلت اليه المدرسة البنيوية. وعلوم السرد وغيرها من كشوفات النظرية الادبية المعاصرة، لإضافة الموروث السردي العربي وبيان الخصائص التي يتوافر عليها. وأصدر كيليطو حتى الآن عدداً من الكتب بالفرنسية والعربية تتناول "ألف ليلة وليلة" و"المقامات" و"مفهوم الحكاية في التراث العربي" و"مفهوم المؤلف في الثقافة العربية"، وآخر ما صدر له بالعربية كتابه "العين والإبرة: دراسة في ألف ليلة وليلة"، وكان صدر من قبل بالفرنسية العام 1993. ويركز الكتاب، الذي ينقسم الى فصول سبعة، على سبع من حكايات "ألف ليلة وليلة" يتخذها مختبراً للتوصل الى معنى الحكايات وكيفية توالدها والغرض من روايتها. ويتتبع القارئ مع عبدالفتاح كيليطو الخيوط السردية لكل حكاية من الحكايات مكتشفاً في كل منها العبرة من رواية الحكايات والغرض من توجهها الى شخص أو جمهور بعينه. وإذا كان الباحث المغربي يفتتح كتابه بتفحص حكاية شهرزاد نفسها، التي يرى انها مسقطة من متن "ألف ليلة وليلة" لأن روايتها تتأخر الى ما بعد الليلة الواحدة بعد الألف، فإن الغرض من البحث عن معنى حكاية شهرزاد يتصل بالمعنى الوجودي لرواية الحكايات. والرسالة التي تحملها "ألف ليلة وليلة" ان شهرزاد تؤخر موتها برواية الحكايات للملك شهريار. وهي لا تسمح للملك بتبين العبرة التي تقف وراء ما ترويه له حتى تصل الى الليلة الأخيرة التي يقرر الملك فيها الصفح عن شهرزاد وبنات جنسها بعد ان شفي من مرض استئصال جنس النساء. إن كيليطو يركز في كتابه "العين والإبرة" على فن الحكي، ويبين ان معرفة شهرزاد لذخيرة الحكايات، التي روتها للملك شهريار، لم يكن كافياً لانقاذ رأسها من التدحرج مثله مثل بقية رؤوس النساء في مملكة شهريار. ما كان ضرورياً لشهرزاد، لكي تسلب لب شهريار، هو التمكن من إغرائه بالانصات الى حكاياتها عبر التمتع بأساليب الحكي والقدرة على الانتقال من حكاية الى حكاية، ان فن الحكي هو ما كان شهرزاد بارعة فيه لأن الحكايات كانت موجودة في كتبها الألف التي درستها وكانت تشتمل على المعارف الطبية والشعر والتاريخ وأقوال الحكماء والملوك. ومن "هذه الذاكرة المكتوبة والزاخرة استقت مادة حكاياتها ونهلت مادة العبرة التي قدمتها لشهريار ليلة بعد ليلة". وفي ضوء هذا التفسير يستنتج كيليطو ان التساؤل حول أصل حكايات "ألف ليلة وليلة" والبحث عن مبتكرها هو عمل لا ضرورة له، وما يمليه هو، في الحقيقة، "فضول غريب عن كتاب "الليالي" الذي لا يهتم سوى بعملية الرواية". لكن رواية شهرزاد للحكايات الواردة في كتاب "الليالي" "لا تكفي لانتقال الكتاب الى القراء ولا تتكفل بانتشاره. إنه بحاجة الى الانتقال عبر الكتابة، من خلال نقل روايتها الشفوية للحكايات أو من خلال إملاء الكتاب على النُسّاخ أو من خلال اعطاء الكتب الألف للنساخ ليعيدوا سرد الحكايات التي احتلت فضاء الليالي. يهدف كيليطو من تشديده على وجود شخص ثالث، اضافة الى شهرزاد وشهريار، الى التركيز على وظيفة الكتابة وانتقال كتاب "الليالي" وذيوعه وانتشاره في أقاصي الأرض. ومن هنا فإن الحكايات التي يختارها للفحص والدراسة في كتابه تدور حول المعرفة وتحصيلها، واخطار تحصيلها، والكتابة بوصفها مصدراً من مصادر المعرفة، يصدق هذا الكلام على "حكاية وزير الملك يونان والحكيم دوبان" كما يصدق على "حكاية حاسب كريم الدين" وغيرها من الحكايات التي يدرسها كيليطو ويذُكّر بها في ثنايا تحليله لحكايات الليالي السبع. إن الكتابة والكتاب هما محور هذه الحكايات، اذ قد يكون الكتاب سبباً في موت صاحبه، كما حصل مع الحكيم دانيال، والد حاسب كريم الدين الذي غرقت كتبه ولم يبق منها إلا ورقات خمس هي ما أورثه لأبنه حاسب. وقد يكون الكتاب المسموم الذي اعطاه الحكيم دوبان للملك يونان سبباً في موت الملك بعد ان يغدر الأخير بالحكيم الذي عالجه وشفاه من البرص. وتفسر هذه المعاني الرمزية للكتابة والكتاب جوهر كتاب "الليالي" الذي ينبه الى خطر المعرفة وضرورتها في الوقت نفسه، والى ضرورة تحصيلها ذاتها وتجشم الصعاب في الوصول اليها. العلم لا يورث حسب "الليالي"، ومن هنا تغرق كتب الحكيم دانيال وتستقر في قاع البحر ولا يبقى منها إلا ورقات خمس يودعها الحكيم قاع صندوق ويأمر زوجته بأن لا تحدث ابنه المستقر في رحمها بعد ولادته عن الورقات الخمس الا إذا سأل عنها. وتطيع المرأة وصية زوجها الذي يموت قبل ولادة حاسب، ولا تخبر ابنها عن الورقات الخمس إلا بعد ان يسأل عنها بنفسه. لكن حاسب كريم الدين يكون قد خاض الاهوال في سبيل الوصول الى المعرفة. الأمر نفسه يحصل مع السندباد الذي يضع ثروته التي ورثها عن أبيه ويجوب البر والبحر رغبة في المعرفة. والطريف في الأمر هو ان ما يراه السندباد في أسفاره يذكره لدى معاينته المشهد بأنه سمع عنه في حكايات البحارة التي يكون قد نسيها بعد سماعها مباشرة. ويفسر كيليطو ارتباط مغامرات السندباد بالحكايات التي كان قد سمعها بأن السندباد يقوم بتحويل الحكايات الى فعل راهن، كما ان الحكايات التي يتذكرها تؤكد صحة رواياته، وهو من دون مغامراته ما كان ليتذكر حكايات سابقيه التي "تجد في رحلته قاعدة وامتداداً، تجد تبريراً لوجودها وفرصة للخروج من العدم الذي طواها". يعيدنا المؤلف في تأويله الحكايات السبع التي يختارها من كتاب "الليالي" الى النقطة نفسها في تشديده على اهمية فن الحكي في "الليالي" وعلى خطورة المعرفة وضرورة السعي اليها في الوقت نفسه. وهو يضيف الى هاتين الفكرتين الاساسيتين اللتين تترددان في كتابه بعداً جوهرياً ثالثاً في كتاب "الليالي" وهو ان الحكايات جميعها تتضمن راوياً ومروياً له، فلا وجود لحكاية في "الليالي" من دون ان يكون هناك راو يروي حكايته لشخص ثان يأخذ العبرة من سماعه حكاية الأول. وتفضي هذه الخصيصة السردية في "ألف ليلة وليلة" الى الفصل الأخير من كتاب "العين والإبرة" الذي يدرس نوعية القارئ الذي تتوجه اليه "الليالي"، ذلك القارئ المدعو الى كتابة حكاية "الجني والصياد" بالإبر على آماق البصر لإظهار استجابته لحكايات "الليالي" وإدراكه ان هذه الحكايات لا تتحدث عن الآخرين بل تتحدث عنه بالأساس وتطالبه بأن يأخذ عبرة مما سمع أو قرأ. وحسب كيليطو فإن الانطباع الذي يخرج به قارئ الليالي هو ان الكلام سيد فيها وان التواصل يتحقق بطريقة شفهية، ان الحكايات لا تقرأ بل تسمع. لكن دراسة كيليطو تبين ان السرد الشفهي ليس الا مجرد مرحلة من مراحل كتاب "الليالي" تتلوها مرحلة تدوين الحكايات كتابة، خصوصاً ان الكثير من حكايات "ألف ليلة وليلة" يتطرق بالذكر الى الكتابة وتدوين المروي الشفوي الى حد كتابة الحكايات "بالإبر على آماق البصر". كتاب كيليطو "العين والإبرة" بعنوانه عميق الدلالة، يلقي ضوءاً ساطعاً على رمزية كتاب "ألف ليلة وليلة" ويفسر عملية تحول حكاياته من السجل الشفهي الى السجل الكتابي، كما انه يفسر مفهوم الراوي ومفهوم المؤلف في هذا العمل السردي الكبير.