لم تزل حتى الآن آثار الثقافة والفلسفة الإقطاعية حاضرة بشكل أو بآخر في تعاملاتنا اليومية وتحديدًا في وجودنا المؤسساتي الذي يعمد إلى إلغاء الإنسان، ودمجه في الكيان الكُلي حفاظًا على الهوية الموحدّة وفق عقد اجتماعي يقنن ويبرر هذا الطمس (الهوياتي) للفرد الواحد، وينساق بنا خلف الاتجاه الحتمي لرقمنة العالم وتحويله إلى آلة كبيرة لا يبدع فيها ولا يبقى ولا يكون من أجزائها الصغيرة إلا من يستطيع أن يكون روبوتًا، أو ترسًا، ويقدم مصلحة الوجود الكلي على وجوده الفردي. يقول أنطوني كولينس: «لسنا أحرارًا، لأننا نتعلق بقوة عمياء مادية هي التي تمنح الحياة لجميع الكائنات، وتعمل دون أن تعرف أنها تعمل. إن العالم آلة ميكانيكية ضخمة، ونحن نؤلف أجزاءها الصغيرة». ولنأخذ على سبيل المثال واحدًا من التطبيقات الإلكترونية الموجودة على شبكات التواصل الاجتماعي ونرصد سويًا المحتوى المقدم في الحساب المسجل باسمهم. سوف يذهلك بطبيعة الحال ذلك المحتوى الإبداعي المقدم وفق معايير عالية المستوى، المعروض في قوالب جذابة، تحاكي ثقافة أبناء المجتمع لأسباب تسويقية صرفه تفرضها أنماط الحياة وطبيعتها. لكنك لن تعرف أيًا من فريق العمل القائم خلف هذا المحتوى الإبداعي. لن تعرف الشخص الذي بذل جهده وفكره ووقته في إعداد النصوص الإبداعية، وأولئك الذين راجعوا من بعده النصوص في جلسات المناقشة والعصف الذهني، ولا أولئك الذين يعملون في الإدارات الفنية على وضع وتهيئة المحتوى البصري، ولا أولئك الذين يخططون ويرسمون السياسات الاتصالية لتسويق ذلك المحتوى وجعله منافسًا للحسابات الأخرى المشابهة بأكثر الطرائق عبقرية وفرادة، وبما يتوافق ويتسق مع المناسبات العامة والشائعة في المجتمع المحلي والدولي، ولن تعرف أحدًا من أولئك الذين يتناوبون على تشغيل الحساب ليبقى حيًا طوال الوقت ومليئًا بالمحتوى في داخل الشبكة الاجتماعية. إن هذا هو شأن أغلب الحسابات على منصة Twitter، سواء كانت حسابات حكومية أو ولجهات تمثل القطاع الخاص أو لتطبيقات تجارية إلكترونية. لن تعرف في أفضل الأحوال إلا الحاكم، أو المالك، أو المسؤول الأول في داخل المنظومة المشغلة لذلك الحساب، والذي ما زال يعمل -دون أن يشعر- على تحويل ذلك المجتمع إلى ما يشبه الدولة، ويتعامل مع كل أولئك العاملين في داخل المنظمة بطريقة طبقية إقطاعية استبدادية تلغي وجودهم الفردي وتدمجهم في الوجود الكلي للكيان أو المنظمة. إني لا أتناول هذا الأمر على سبيل النقد، فأنا أتفهم أن لكل جهة سياستها في الاتصال والتواصل مع جمهورها، ولكني أتحسر من ناحية ثقافية وفلسفية على ذلك الإنسان المسحوق في الأعمال، الإنسان الذي تحول إلى «ترس» غائب عن الوعي والنظر، ليحافظ على الحركة الدورانية الإبداعية للكيان. الإنسان، مجرد ترس في هذا العالم! ** ** - عادل الدوسري [email protected]