حائل – عبدالعزيز الخزام الفضيل: نحتاج إلى استنهاض رؤية فكرية جديدة تتواءم مع القرن الجديد الشريف: كيف نقيم فعلاً ثقافياً والمحتسبون يقتحمون المحاضرات والأمسيات الغريبي: أتطلع لمهرجانات تجذب الجمهور للثقافة كما تشدهم كرة القدم مع توالي عقد المناسبات الثقافية من مهرجانات ومعارض ومؤتمرات وملتقيات في مختلف مدن المملكة، فإن كثيراً من المثقفين والأدباء السعوديين لا ينظرون بعين الرضا نحو هذه المناسبات الثقافية، التي تنظم بصورة مستمرة طوال العام. وإذا كان الشاعر سعد الغريبي لا يرى من أثر ثقافي لهذه المهرجانات «إلا كباقي الوشم في ظاهر اليد»، فإن الشاعر عبدالعزيز الشريف يقول إن بعض هذه المهرجانات «خرج عن مساره وأهدافه وأصبح يلهث في محاكاة الآخر»، أما الكاتب والباحث الدكتور زيد الفضيل فيطالب المؤسسات الثقافية بتحديد الأهداف والغايات الثقافية والمعرفية التي تريد هذه المؤسسات تحقيقها، مشيراً إلى أن تحقيق هذا الأمر سينظم مسيرة كل الملتقيات الوطنية الكبرى المنعقدة في المملكة. ضياع البوصلة متحدثون في ندوة «تجارب الكتاب في الترجمة» ضمن البرنامج الثقافي ل «سوق عكاظ» (واس) ويقول الفضيل، الذي قدَّم عدداً من الأطروحات في هذا المجال: لا يختلف اثنان على أهمية ما تقوم به وزارة الثقافة والإعلام من جهد في سبيل تنظيم مختلف المؤتمرات الثقافية الوطنية، وما تقدمه من تسهيلات واستضافة راقية، دون أن ترهق المثقفين بأي من التفاصيل، «وهو أمر تستحق عليه كل الثناء والشكر»، غير أنه تساءل: «هل تحمل هذه الملتقيات الوطنية الرائعة في جنباتها رسالة ثقافية كبرى تريد المضي بها وتعميقها بين المثقفين؟ بمعنى، هل هناك رؤية ثقافية وطنية كبرى تمت بلورتها عبر محددات وآليات معرفية تريد الوزارة مناقشتها وتعميق أهدافها بين المثقفين من خلال عقد الملتقيات الثقافية الوطنية الكبرى؟ أم أن غاية القائمين على تنظيم تلك الفعاليات تتوقف عند حد تحقيق كثافة المشاركة بالحضور والنقاش؟». ويشدد الفضيل على ضرورة تكوين رؤية شاملة لطبيعة وأهداف مختلف تلك الملتقيات الوطنية، ويقول: «تحدثت في محاضرة ألقيتها… في الدورة الثالثة من سوق عكاظ، عن خطورة أن نفتقد كمثقفين بوصلة خارطتنا وهويتنا الثقافية، وأشرت إلى أن إشكال أي مؤسسة ثقافية كامن في غياب الرؤية والرسالة، وهو ما بتنا نعيشه اليوم كما أتصور». مهرجانات شعبية ويوضِّح الغريبي أن المملكة عبارة عن «قارة متباعدة الأصقاع ومتنوعة التراث، ومهما تعددت المهرجانات والفعاليات الثقافية فلا يمكنها أن تغطي حاجة المثقفين وتشبع نهمهم»، مبيناً أنه «إذا ما روعي جانب التنويع بين نشاطات كل مهرجان، والمدة الزمنية الفاصلة بين مهرجان وآخر، والحرص… على الابتعاد عن النمطية والتكرار، ونسخ التجارب المحلية أو العربية، ستكون النتائج دون شك أفضل»، مشيراً إلى أن «هذه المهرجانات، وفي غيرها من المؤتمرات والمناسبات الثقافية، تكرر بعضها، وأنها نسخ عن بعضها حتى في وجوه المدعوين والمشاركين». ويتابع: «أرى مشاركات لجهات حكومية ومؤسسات خاصة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالحدث. قد تكون الآن لا ضرر من وجودها لأنها لا تزاحم الفعاليات الثقافية التي أقيمت من أجلها هذه الفعاليات – لقلتها -، لكني أخشى أن ترسخ أقدامها حتى إذا نهض المثقفون وجاؤوا بمشاركاتهم لم يجدوا موطئ قدم لهم». ويستدعي الغريبي تساؤلات، كما الفضيل: «لمن هذه المهرجانات؟ ومَنْ المستهدفون؟ هل هي لمجموعة الأدباء المدعوين رسمياً؟»، مضيفاً: «لقد فهم كثير من المثقفين والأدباء أنها كذلك، ولذلك قد تسأل أديباً أو مثقفاً: لِمَ لمْ تحضر ذلك المهرجان؟ سيقول لك فوراً: لم أُدعَ إليه!». ويشير إلى أنه بهذه الطريقة «لا يمكن أن تحقق المهرجانات الثقافية أهدافها»، ولن تحققها «ما لم تكن مهرجانات شعبية تفتح للعامة وتقدم التسهيلات اللازمة للحضور». ويضرب لذلك أمثلة يمكن من خلالها تسهيل الحضور، مثل رعاية شركات النقل للمهرجان مثلا، على أن توفر حافلات تنقل الراغبين للحضور مجاناً، أسوة بمباريات كرة القدم التي تسير لها الحافلات لحضور أحداث رياضية، كما يمكن لشركات الطيران منح خصم يصل إلى 50% لمن أراد حضور الفعاليات على حسابه، وكذلك الأمر بالنسبة للفنادق، كما يمكن إقامة مخيمات برية مؤقتة تدار من قبل بعض الفنادق بأسعار رمزية، وبذلك يكون المهرجان مكاناً للقاء المثقفين وتفاعلهم. فراغ المحتوى عبدالعزيز الشريف يتفق الشريف مع الغريبي في تماثل المهرجانات: «مع هذا التوالي للمهرجانات الثقافية التي تشهدها الساحة الأدبية ومع هذه الكثرة القاتلة والتشابه في نشاطاتها، حيث أصبحت نسخاً مكررة من بعضها البعض، حتى إن بعضها خرج عن مساره وأهدافه وأصبح يلهث في محاكاة الآخر بثقافة تعرج وبؤس ثقافي كالبيت الجميل من الخارج المتواضع من الداخل هذا هو حال المثقف السعودي الذي لا يحقق أبسط حقوقه، كتفرغ المثقف لفنه، وحفظ حقوقه وماله وماعليه من خلال «نقابة» تحفظه حياً وميتاً». وأضاف: «كان من الأولى أن نصلح حال هذا الأديب الذي أفنى حياته وهو مخلص لإنتاجه الإبداعي، بدلاً من إقامة مهرجانات أدبية مفرغة من المحتوى، ليس من المعقول أن نسعى بهذه البلاهة نحو الآخرين، والمثقف في وطني يشعر بالدونية أمام المثقفين عرباً كانوا أم عجماً، بل إن بعض المثقفين العرب يضغطون على هذا الجرح، وكأنهم يقولون: أنتم القيمة لكم في وطنكم، وبنا تكونون ومنا تتعلمون». فكر جديد ولتصحيح وضع هذه المهرجانات والمؤتمرات الثقافية، يعود الفضيل للحديث عن «الرؤية الشاملة»، لافتاً إلى أن «لكل عهد رؤيته ورسالته التكتيكية»، وأن تلك الرؤية والرسالة يجب أن تتسم «مع الغايات الكبرى المرجعية لأي مجتمع». ويقول: «إذا كانت رؤيتنا ورسالتنا في عقد الستينيات والسبعينيات الميلادي قد انطلقت من بعدها الإسلاموي العالمي في مواجهة المد القومي في تلك الفترة، أثمرت عن تأسيس رابطة العالم الإسلامية، وتأسيس منظمة التعاون الإسلامي، وفي عقد الثمانينيات أقحم بعض رموز التيار الإسلامي الحركي المجتمع في صراع محموم ضد تيار الحداثة الفكري، ليتم اختطاف مشهدنا الثقافي بوجه عام لصالح خطاب ديني أحادي عرف بخطاب الصحوة، لا نزال نعاني من تبعاته حتى اليوم… فإننا اليوم في حاجة ماسة إلى استنهاض رؤية فكرية جديدة تتواءم مع طبيعة ومحددات القرن الجديد، وتتماشى مع تغيراته السياسية والاقتصادية والأهم الاجتماعية، في ظل ما نعيشه من انفتاح حياتي كبير، لم تعد أدواته قاصرة على الآلة الإعلامية التقليدية، بل بات متأثراً بآليات لا يعرفها ويفهمها أولئك المنتمون لجيل القرن العشرين عموماً». معايير علمية ويواصل الفضيل حديثه: «لا يجب أن تكون مؤتمراتنا الوطنية الكبرى مكاناً للقاء وحسب، وإن كان لذلك أهميته العظمى، كما لا يجب أن تكون مقراً لكثير من الأوراق البحثية البسيطة، تلك التي لا تحمل بين جنباتها أي سؤال من أسئلة الحيرة والدهشة، ولا تعيش قلق السؤال ومخاض التجربة وعنت الإجابة. إنها الحقيقة المهمة التي بات علينا التركيز عليها، وأتمنى على وزارتنا الاهتمام بها. فالمنبر الثقافي الوطني عزيز وغالٍ، ويجب أن يتوفر عديد من المعايير العلمية والفكرية فيمن يتصدى للرقي عليه، وإن حدث ذلك سنكون قد وضعنا أقدامنا على أول درجة في مشروع النهضة الفكري، وإن لم -فحقاً أقول- إننا نعيد تكرار أنفسنا بصورة أسوأ، وننسخ ذواتنا وأذهاننا بشكل رديء، وتلك هي كارثتنا اليوم». ثقافة جاذبة سعد الغريبي وينتظر الغريبي، شخصياً، كثيراً من هذه المناسبات، متمنياً «أن تكون مجالاً للتعرف على شعرائنا وأدبائنا المعاصرين قبل أن نتعرف على من طواهم الزمان في بردته؛ فأولئك خلدتهم الموسوعات الأدبية والدواوين المطبوعة والشروحات والدراسات. أتطلع لربط الحياة الثقافية بالمجتمع المعاصر، وبالحياة اليومية. أنتظر من المهرجانات – ولا سيما مهرجان عكاظ – أن يكون صورة لما كان عليه السوق في ذلك الزمان. أن نسمع من عديد من الشعراء، ثم يكون الإعلان عن شاعر السوق وخلع البردة عليه في نهاية المهرجان، لأن الإعلان عنه قبل بدايته ينهي عنصر المفاجأة والتشويق والاستماع لغيره. أتوقع أن يصاحب المهرجان معرض للكتاب السعودي المتخصص في الأدب -أو الشعر خاصة – وأن تتاح فرص توقيع الشعراء لدواوينهم… أنتظر تغطية إعلامية هائلة تواكب الحدث… أقرأ على شريط القناة الثقافية السعودية أن 250 إعلامياً يغطون المناسبة، ثم لا أجد في أشهر الصحف في المملكة حرفاً واحداً عن المهرجان! لو كان حدثاً رياضياً لأصدرت الصحف ملاحق خاصة لتغطية المناسبة. أريد من المهرجان أن يجذب الجمهور للثقافة كما تجذب كرة القدم عشاقها إليها!». أسئلة مُلحَّة ويعود الشريف لطرح الأسئلة، ملمحاً أن في الإجابة عليها جزءاً من الحل: «كيف نقيم مهرجانات كهذه والثقافة مغيبة في مقاطعها كلها؟ وكيف نقيم مهرجانات ومن يقوم على إدراتها موظفون عاديون ليس لهم علاقة لا من قريب ولا من بعيد بالشأن الثقافي؟ وكيف نقيم مناسبات ثقافية ووزارة الثقافة مهمشة عن دورها الثقافي المفترض وتحضر كضيف شرف؟ وأخيراًَ كيف نقيم فعلاً ثقافياً والمحتسبون يقتحمون المحاضرات والأمسيات الشعرية ويطاردون المرأة ويفسدون جمال المناسبة بدعوى الدين؟»، بيد أنه يستثني فقط معرض الرياض الدولي للكتاب من بين المناسبات الثقافية، التي تنظم في المملكة، «أما البقية، وبصدق فلا أثر لها على واقع المثقف، ولا على المشهد الثقافي التعيس، الذي يسير ونظره للسماء». ورش العصف زيد الفضيل إلا أن الفضيل اختار أن يشدد على أهمية العمل المؤسسي الجاد لدفع الثقافة، ويقول: «من أبجديات أي عمل مؤسسي هادف إلى بناء هرمه بالشكل السليم، أن تؤسس كل مصطبة فيه لما بعدها»، مضيفاً: «هل ملتقياتنا الثقافية الوطنية تقوم على ذلك؟ لا أريد أن أجيب عن ذلك، كما لا أحب أن يتصدى أحدنا للإجابة بشكل فردي عن ذلك، وما أتمناه وأرجوه أن تتم الإجابة عن ذلك ضمن ورشة عصف ذهنية حقيقية، تتمكن أذهانها من بحث الإيجابيات والسلبيات، وهو المسار الأول السليم لصناعة أي مشروع نهضوي ناجح». ويستطرد: «إننا في حاجة مستقبلاً إلى أن نعقد عديداً من ورش العصف الذهني خلال الملتقيات الثقافية الوطنية الكبرى لمناقشة عدد من الأفكار والمشاريع الثقافية التي تسهم في بناء هرمنا الثقافي المرجو وتحديد أدواته ووسائله». كيف.. لا.. كم؟ ويتابع قائلاً: «كما يجب أن تعكس الأوراق المقدمة في مثل هذه الملتقيات الوطنية الجامعة قيمة معرفية عالية، من حيث البناء المنهجي، والتحليل العلمي، حتى تكتمل الفائدة العلمية، وتسهم مختلف الأوراق في صناعة هرمنا الثقافي، وفق أسس علمية ورؤية فكرية ناضجة. وهو ما يعني أن ترتفع المعايير المنهجية لقبول أي ورقة، حتى لو أدى ذلك إلى قلة عدد الأوراق المقبولة، فليس النمو بالكثرة، وليس التقدم بالحشو، ولن نبني مشروعنا النهضوي بالتكرار والسطحية في معالجة عديد من الأفكار، وما أجمل وأروع أن يناقش المؤتمرون مجموعة لا تتجاوز عدد أصابع الكف من الأوراق العلمية القوية التي تثير مكامن نفوسهم، وتشعلها بأسئلة لا تنتهي، وتساهم في بناء مداميك لبناتهم المعرفية، من أن يضيع وقتهم في الاستماع لكثرة كاثرة من أوراق متكررة ليس فيها ما يثير، كما أن غيابها كحضورها، والأهم أنها لن تسهم في صناعة مشهدنا الثقافي النهضوي، لكونها لا تحمل في طياتها شيئاً من أسئلة الحيرة، ولا تنطلق في مضمونها من بعد معرفي وقاد، وبالتالي فلن يكون بمقدورها أن تشعل شمعة واحدة في مسيرتنا النهضوية. وإن حدث ذلك فسيؤدي الالتزام بهذه القيمة المنهجية، وذلك المعيار العلمي، إلى متانة أكبر لمشهدنا الثقافي، وسيعمل على تحسين أدائنا المعرفي بوجه عام، وفي تاريخنا شيء من ذلك»، مستشهدا بأن «قريش لم تكن لتعلق على جدار الكعبة المشرَّفة أي قصيدة تصل إليها، وما كان يحظى بهذا الشرف إلا من استحقه لجزالة لفظ، وقوة تعبير، ومتانة تصوير بلاغي فريد». ويردف: «ما أحوجنا اليوم إلى ذلك، حتى يميز مشهدنا الثقافي الوطني من جهة بين جمهرة مثقفيه وأدبائه، إذ ليس كل من كتب نصاً بات أديباً، وليس كل من ساهم بورقة بات باحثاً، ومن جهة أخرى بين جمهرة المثقفين والأدباء الحقيقيين ونظرائهم من الوهميين، الذين باتوا يشكلون جانباً كبيراً من مشهدنا، وهو ما جعله مشهداً ضعيفاً متضعضعاً وهِنًا في أبرز معالمه الفكرية وملامحه الفلسفية». ويختتم الفضيل حديثه بالتشديد على أن أي بناء معماري لا يستقيم كيانه، ولا تتحقق الفائدة منه، إلا إذا توافق بناؤه مع الهدف والغاية، «وفي واقعنا الثقافي المعاش بات ضرورياً أن نعيد تحديد الأهداف والغايات الثقافية والمعرفية التي نريد الوصول إليها، بصورة محددة وواضحة وفي مدة زمنية دقيقة، وفي حينه ستنتظم مسيرة كل الملتقيات الوطنية الكبرى، والملتقيات المحلية التي تنظمها الأندية الأدبية، لخدمة ذلك الهدف وتحقيق تلك الغاية. فهل إلى ذلك من سبيل؟». مشاركون في ملتقى النقد الأدبي الرابع الذي أقامه نادي الرياض الأدبي العام الماضي (واس)