جاء تأسيس منظمة التجارة العالمية عام 1995 بإرادة غربية وبإلزام سياسي للانضمام إليها، وكان ذلك الإعلان بمثابة نهاية التاريخ الاقتصادي في العالم، فالبضائع الأمريكية والغربية تبحث عن تذكرة مرور سهلة إلى أسواق الدول المستهلكة.. أتذكر جيداً تلك الفترة، والمد والجزر حول الانضمام، فقد كان هناك من يؤمن بها إلى درجة أن أحدهم قال إن الممانعة عن الانضمام إلى منظمة حرية التجارة أشبه بسحب بعضهم مكبلين بالسلاسل إلى جنة الدنيا الاقتصادية. بينما كانت الصورة واضحة عند آخرين، فحرية التجارة لا تخدم الدول التي يسود اقتصادها نمط الاستهلاك، وبيع مواد الخام، فالوطنية ركن أساسي في مخاض الخروج من الاستهلاك إلى الإنتاج والتصدير، وهو ما حدث في دول مثل كوريا الجنوبية واليابان، فقد استغلوا منافذ حرية التجارة، وأنتجوا ماركات تجارية تتجاوز المنتج الغربي، وحققوا المعادلة. كانت القفزة الأكبر في الصين، فقد تعزَّز غزو البضائع الصينية للسوق الأمريكية حتى في مجال الاتصالات والأجهزة المنزلية والكهربائية والإلكترونية، وقد كشفت هذه المعادلة عدم حياد مبدأ حرية التجارة، ومع قدوم ترامب إلى البيت الأبيض كانت الولاياتالمتحدة في طريقها لخسارة زعامتها للتجارة الحرة. بدلاً من الوفاء لمبادئ السوق الحر التي روَّج لها الأمريكان كثيراً، أعلن ترامب الانقلاب عليها، وفرض حزمة قيود تشمل رفع الرسوم الجمركية على بضائع صينية وأوروبية، وأصبحت هذه القيود شعاراً لوطنية ترامب، وسبباً لشعبيته، وربما لفوزه في الانتخابات القادمة. تحولت الوطنية الاقتصادية في بعض العقول إلى شيء إيجابي بفضل ترامب، بينما كانوا في وقت مضى يتغنون بانتصار ليبرالية السوق، وانتهاءً مبدأ تقدم المصلحة على مبدأ حرية التجارة، لكن نكسة المبدأ في داره التي انطلق منها، أعاد للمصلحة الوطنية أهميتها، وأنها دوماً تتقدَّم على مصالح الآخرين. لكن في بلاد العرب كانت الوطنية في زمن ما شعاراً لهم، لكنها وطنية لا تخدم الاقتصاد، ولكن سياج أمني، كان الغرض منه التحكم بمفاصل الاقتصاد، وفي زمن حرية التجارة خسروا لأنهم لم يكن لديهم ما يقدمونه لقافلة التجارة العالمية، ولذلك أساءوا استغلالها، وعادوا منها بخفي حنين، وظفرت بها النمور الآسيوية. كنا نحتاج كثيرًا من الوطنية في زمن حرية التجارة، فقد كانت فرصة لإنشاء المشاريع العملاقة وتوطين العمل في الوطن، من خلال إحلال المواطنين في مواقع سيطرة الأجانب على مفاصل اقتصاد السوق، لكن ذلك لم يحدث، وكان تطبيق مبادئ حرية التجارة ليخدم مصالح البضائع والعمالة المستوردة، ولهذا السبب لم نكن خلال تلك الفترة «لا من العير ولا من النفير».. لذلك ما فعله دونالد ترامب من قيود كشف عن حقيقة تعريف الوطنية، وماذا تعني على وجه التحديد، وبكل أمانة نحن في أمس للحاجة لتلك الوطنية التي تجعل من العمل حق وطني، ومن الإنتاج والتصدير مهمة وطنية وأهداف عليا.