علاقة الفلسفة بالعلم لم تكن تناقش في مباحث مستقلة في الفلسفة الكلاسيكية؛ بل كانت تعتبر لبّ الفلسفة منذ اليونانية التي فكرت في العناصر الأربعة (الماء - الهواء - النار -التراب) باعتبارها أصلاً فلسفياً للكون والإنسان؛ حتى نيوتن الذي يسمي كتابه (الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية). ثم جاءت مرحلة مهمة في نقاش الفلسفة التجريبية الحسية مقابل العقلانية مع فرانسيس بيكون وهيوم وبيركلي؛ فظهرت محاولة للتفريق بين العلم والفلسفة دون الفصل بينهما؛ وهنا اتجه النقاش إلى الابستمولوجي بتوسع في الاتجاهين حتى وصل إلى كانط ففلسف العقل؛ ونقل التفكير من التفكير إلى كيفية التفكير فوجه فلسفته إلى نقد العقل ذاته؛ وحاول أن يرمم ما هدمه التجريبيون قبله لبنى الابستمولوجيا العقلية. وفي مرحلة لاحقة يفتح نيتشه بابا إلى الفلسفة التفكيكية الناقدة الصاخبة المنفلتة من التقعيد الابستمولوجي المؤطر؛ فهزّ العقلانية حينما اعتبر كل شيء هو تأويل؛ وبالتالي مهّد لمرحلة الصراع المهم جداً بين الفلسفة والعلم في مرحلتنا المعاصرة؛ وهي المرحلة ذاتها التي حوّل ماركس فيها الفلسفة من التفسير إلى التغيير؛ فغير مجرى التفكير الابستمولوجي (المثالي) معتمداً على جدلية هيجل؛ ومع هذين الفيلسوفين ترنح التفلسف العقلاني المثالي؛ حتى ظهرت نظرية داروين في القرن ذاته ليبدأ معها إشكال كبير في الفلسفة المعاصرة يكمن في (فلسفة العلم)؛ وبذا يمكن لنا أن نعتبر القرن التاسع عشر هو البذرة الأساس لإشكال العلاقة بين الفلسفة والعلم. ولم يستسلم الفلاسفة لهذا الإشكال الذي بات يحاصرهم؛ ويعيد التفلسف إلى المختبر؛ فانتقل التفكير من المكتب إلى المختبر؛ فزاحمه الفلاسفة بمحاولة (التفلسف العلمي)؛ أي تقنين التفلسف بنظريات العلم؛ فظهرت (الفلسفة التحليلية/المنطقية الوضعية) ومعهم اتجهت الفلسفة إلى اللغة التي نتفلسف بها؛ فتحول الفعل الابستمولوجي من العقل إلى اللغة أو إلى ما ينتجه العقل وهو اللغة؛ فباللغة تظهر لنا الابستمولوجي؛ فاهتموا بالمعنى؛ كيف ننتج المعنى؟! أو كيف يتحقق المعنى؟! أو كيف يصدق المعنى؟! فأخرجوا ما ليس علمي في اللغة كعبارات المشاعر التي لا يمكن قياس تحققها. ولكن قفزات العلم التجريبي أضحت أقوى من قفزات التنظير الفلسفي؛ فأدخل الإنسان (دماغه) إلى المختبر؛ فنقل الشيء الذي يتفلسف به (الدماغ) إلى المختبر ليحلله؛ وليكشف للفلسفة كيف يمكن للدماغ أن ينتجها! فانبهر الدماغ الذي يتفلسف من ذاته؛ لكنه لم يزل في مراحل تفلسفه ولا يزال للفلسفة مكان يقبع في (الوعي consciousness). والفلسفة هنا ليست هي التفكير؛ والقول بموت الفلسفة ليس هو القول بموت التفكير؛ وهنا أحيل إلى مقال سابق بعنوان (موت الفلسفة)؛ ولعل عمر الفلسفة مديد لم يأتِ موتها بعد؛ إلا أنها في تحدٍّ هائل إزاء العلم التجريبي المختبري؛ ولا يزال العلم التجريبي يحمل إشكالاته أيضاً أمام الفلسفة كإشكالية (التفسير العلمي) و(ربط النظريات ببعضها) التي لم يجد لها العلماء التجريبيون مخرجًا عن الفلسفة. والعلم التجريبي المختبري حينما يواجه الفلسفة ويصل إلى إجابتها؛ فإنه يعمل ضمن ربط تنظيري متقارب، بل يصل حد الإحكام بين العديد من مجالات العلم كالفيزياء والفلك والأحياء؛ فالعلوم هنا تنطلق من نظريات كبرى شمولية يسعى العلم من خلالها للوصل إلى (نظرية كل شيء Theory of everything)؛ ففي الفيزياء تناقش نظرية الكم؛ وفي الفلك ينطلقون من الانفجار العظيم؛ وفي البيولوجي يعتمدون على التطور؛ وبالتالي هناك تواؤم بينها يكاد يكون أكثر دقة من تشتيتات الفلسفة وبالخصوص في مرحلة (ما بعد الحداثة) - وقد كتبت عنها سابقا مقال بعنوان (فلسفة الشتُّ)-. فهنا العلم التجريبي يسعى إلى التجميع؛ بينما الفلسفة تنتقل إلى التفتيت ونقد المركزيات، وهذا ما يجعلنا إزاء دقة أكثر علمية ومادية من مراحل العلم السالفة. وقد ساعد على هذا التجميع العلم نفسه من خلال التقنية؛ فالإنسان بات في مرحلةٍ يمكن له أن يرى المركبة الفضائية وهي تحط على المريخ من موقعه على الأرض؛ واستطاع الإنسان أن يرى الكهرباء داخل العصبونات في الدماغ وهي تتحرك لتحيلنا إلى علم ما؛ ويمكن للإنسان أن يحلل الأحافير بناءً على مركباته الكيميائية المشعة؛ وكل هذه التقنيات العلمية لو كانت في مرحلة سالفة من تاريخ البشرية لقل الكثير مما كتبه الفلاسفة؛ فكيف يمكن لنا أن نفكر في الفصل بين الجسد والعقل كما في الفلسفة الكلاسيكية عند اليونان وديكارت خصوصاً الذي أثر على الابستمولوجيا العقلية الغربية؛ إذا كنا نعلم أن (الفلسفة في الجسد) أو بمعنى آخر إذا كنا نعلم أن الدماغ (Brain) هو الذي يعمل وليس العقل (Mind)؟! وفي تطور أكثر للعلم يمكن له أن يفتح مجالا لم يكن للفلسفة الكلاسيكية حتى التفكير فيه وهو (الذكاء الاصطناعي) مما جعل التفلسف حول (ما الإنسان) تفلسفاً مغايراً لما هو مبثوث في الفلسفة الكلاسيكية والحداثية. فكيف يمكن (للبيوتكنولوجي) أن يناقش ما طرحه (هوبز) و(هيوم) حول الطبيعة البشرية؟! كيف يمكن للابستمولوجي أن يتغير تماماً عمَّا هو معمق في أبجديات الفلسفة الحداثية على وجه الخصوص التي مجّدت العقل وبالتالي اهتمت ب(الإنسانية) كما عند ديكارت وكانط؟! وكيف لنا أن نتعامل مع الابستمولوجي بمنظور آخر مغاير لما هو مطروح في الفلسفة الكلاسيكية كما طالب به باشلار ضمن إطار فلسفة العلم؟! ** **