الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام الأتمّان الأكملان على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. ففي مغرب الأربعاء الحادي والعشرين من شهر ذي القعدة من عام ألف وأربعمائة وأربعين للهجرة (21-11-1440ه) ودَّعت بريدةوالقصيم عَلَمًا من أعلامها وشخصية بارزة من شخصياتها الفذّة، أحد قرَّائها المشاهير، وأحد أعلامها التربويين، الذين كان لهم إسهامهم وأثرهم الباقي؛ إنَّه شيخنا وأستاذنا الكبير القارئ الشيخ صالح بن سليمان بن محمد المقيطيب -رحمه الله- بعد معاناة من المرض. لقد تكرر هذا الاسم المبارك، وهو الشيخ صالح بن سليمان المقيطيب على أذني منذ طفولتي؛ حيث كان له معرفة وزمالة وصداقة مع والدي -رحمه الله- وعمَّيَّ سليمان وصالح، وكنت أراه بين الفينة والأخرى، ثم عرفته كذلك أيضًا في طفولتي بحكم قربه من زوج عمتي الشيخ صالح بن سليمان الشقيران، حيث إنَّ زوج عمتي هو خال الشيخ صالح المقيطيب -رحمه الله-، فكنت منذ طفولتي أراه في مناسبات عديدة. ثم كذلك معرفتي به أيضًا من أخوالي، فخالاي محمد وصالح السالم -رحمهما الله- كانا أيضًا على معرفة تامَّة بالشيخ صالح المقيطيب -رحمه الله-، حيث جمعتهما علاقة صداقة طويلة. هذه المقدمة تقودني إلى الشيخ صالح المقيطيب الذي نشأ اسمه مع طفولتي وشبابي -رحمه الله-. الشيخ صالح المقيطيب ولد -رحمه الله- عام ألف وثلاثمائة وثمان وأربعين للهجرة (1348ه) في مدينة بريدة، من بيت صلاح وتقى؛ فوالده أيضًا الشيخ سليمان بن محمد المقيطيب الذي تولى إمامة مسجد المقيطيب الذي اشتهر باسمه؛ لأنه أوَّل من أمَّ فيه عندما بُني عام ألف وثلاثمائة وأربعة وثمانين للهجرة (1384ه) حتى توفي -رحمه الله- عام ألف وأربعمائة وثمانية للهجرة (1408ه)، فكانت إمامة سليمان المقيطيب كما أورد ذلك الدكتور عبدالله بن محمد الرميَّان في كتابه «مساجد بريدة القديمة من عام ألف وثلاثمائة وأربعة وثمانين للهجرة إلى ألف وأربعمائة وثمانية للهجرة». والشيخ سليمان المقيطيب -رحمه الله- تعلَّم القراءة والكتابة على يد عدد من العلماء ومنهم الشيخ عمر بن سليم، وعبدالعزيز العبادي، ومحمد المطوّع وغيرهم. تعين عضوًا في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأحساء، ثم انتقل إلى هيئات القصيم، حتى توفي -رحمه الله-. وقد أورد شيخنا العلامة الشيخ محمد العبودي في كتابه: «معجم أُسَر بريدة» تحت وسم أسرة المقيطيب تعريفًا بعدد من الشخصيات من أسرة المقيطيب ومنهم والد الشيخ صالح، وهو سليمان بن محمد المقيطيب؛ الذي عيَّنه قاضي بريدة مع النوَّاب وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد عرَّف شيخنا العلَّامة الشيخ محمد العبودي والدَ الشيخ صالح المقيطيب، وهو سليمان المقيطيب، بل إنَّه توصل إلى جدِّه محمد؛ الذي يقول الشيخ محمد العبودي: «عرفته رجلًا طويلًا معه عدد كبير من الأولاد، وتوفي بعد أن عُمِّر عام ألف وثلاثمائة وثلاثة وستين للهجرة (1363ه)». لقد أمَّ الشيخ سليمان المقيطيب -والد الشيخ صالح رحمه الله- في ذلك المسجد، ثمَّ خلفه ابنه الشيخ علي بن سليمان المقيطيب في إمامة المسجد عام ألف وأربعمائة وثمانية للهجرة (1408ه)، وهو أيضًا -الشيخ علي- من رجالات التعليم الذي كان له إسهامٌ تربويٌّ معروف، واستقال من المسجد من عام ألف وأربعمائة وعشرين (1420ه)؛ لبعد مسكنه وظروفه الصحية. كما أنَّ الشيخ صالح المقيطيب -رحمه الله- كان يجلس للطلبة في ذلك المسجد، وكان يؤم في بعض الفروض والصلوات. الشيخ صالح بن سليمان المقيطيب شخصيَّة علميَّة وثقافيَّة واجتماعية متميِّزة، درج في التعليم وتتدرج في الدراسة من عام ألف وثلاثمائة وستة وخمسين للهجرة (1356ه)، وتعلّم في الكتاتيب، ثم اشتغل في أعمال حرّة حتى فُتحت المدرسة الليلية عام ألف وثلاثمائة وأربعة وسبعين للهجرة (1374ه)، فالتحق بها ونجح من الصف الرابع، ثم اختاره وعيّنه معتمَد التعليم في بريدة الشيخ صالح بن سليمان العُمَري -رحمه الله- مدرسًا رُغم أنَّه لم يكمل الدراسة، فعُيِّن مُدَرِّسًا بمدرسة البصر عام ألف وثلاثمائة وواحد وسبعين للهجرة (1374ه)، وواصل الدراسة منتسبًا، ثم في الجامعة تخرّج عام ألف وثلاثمائة وستة وثمانين للهجرة (1386ه). التحق بحلقات العلم والدراسة على عدد من العلماء والمشايخ ومنهم الشيخ علي السالم، والشيخ صالح الخريصي، والشيخ صالح السكيتي، ثمَّ لازم ملازمة دقيقة الشيخ عبدالله بن حميد ثماني سنوات متواصلة. بعد ذلك التحق بالعديد من الأعمال والوظائف، فعمل مدرِّسًا ثم مديرًا ثم موجهًا للغة العربية من عام ألف وثلاثمائة وتسعين للهجرة (1390ه) حتى نهاية ألف وأربعمائة وثمانية للهجرة (1408ه). وكان له دروس عديدة أيضًا في التدريس في شرح ألفية ابن مالك، في عدد من المساجد التي تنقّل فيها، وغيرها من الدروس. الشيخ صالح بن سليمان المقيطيب أديب وشاعر، وجهر بصوته الأدبي في عدد من المناسبات في التعليم وفي مناسبات منطقة القصيم وبالأخص بريدة، فكان شعره حاضرًا في كلِّ مناسبة يشارك فيها، وكانت له قصائد عديدة ومراثٍ متنوعة في عدد من الشخصيات التي كان له ارتباط وعلاقة بها. والشيخ صالح المقيطيب أيضًا كان له إسهام مهم في التربية والتعليم، حيث كان أحد مشرفي اللغة العربية وموجهيها سنوات طويلة. وكان له إسهام متنوع أيضًا في عدد من المجالات الخيريّة والاجتماعيَّة في مدينة بريدة. لقد كانت حياة الشيخ صالح بن سليمان المقيطيب -رحمه الله- حياة حافلة باللطف وحسن الخلق والتعامل الفذّ مع جميع الشخصيات التي تعرَّف إليها أو تعرَّفت عليه، واقترب منها أو اقتربت منه، وكانت إمامته للمساجد أنموذجًا يُحتذى، وكتب العديدُ من الشخصيات عن التعامل العجيب الغريب الذي كان يقوم به مع كافّة أطياف المجتمع والناس، فابتسامته ولطفه وتواضعه وبساطته كانت مضرب المثل، لذا لم يكن عجبًا أن يكتب العديدُ من الكتّاب عن هذه الصفات المتلازمة فيه، وبالأخص الأستاذ تركي الدخيل، والأستاذ فهد الشقيران الَّذَين كتبا عنه وعن مدرسته التربويّة والأخلاقيّة في إمامته للمسجد وحسن تعامله مع الآخرين. لقد اشتهر الشيخ صالح بن سليمان المقيطيب بهذه الصفة الملازمة؛ وهي حسن خلقه ولطافته مع الناس، وإن نسيت فلا أنسى في كلِّ مناسبة يلاقيني بها أجده يزفُّ إليَّ العديد من الكلمات اللطيفة الجميلة والمحفزة والمشجعة في كل شئون الحياة، وكنت أسمع منه هذه الكلمة كلما لقيته أو زرته في بيته فيقول لي بلطف معهود وحسن ظنٍّ كبير منه: «ليت أبا إبراهيم -هكذا يقصد والدي رحمه الله- حيًّا موجودًا فيشاهد ما هم عليه، أو ما عليه أبناؤه اليوم». وكانت هذه الكلمات من أجمل ما أسمعه، وخصوصًا من مُربٍّ كبير، وشخصية فذّة معروفة. ومن ملاطفته -رحمه الله- أنني زرته قبيل سنوات قلائل من زياراتي المتكررة له في مسجده حينما أصلي معه وأسلم عليه فألّحَّ عليَّ بالدخول إلى بيته بعد المغرب، وجلست معه، فجلس يستعيد -وكان آنذاك في ذاكرته الجيّدة والقويّة بعض ذكرياته مع والدي وأخوالي صالح ومحمد السالم -رحمهما الله- وهم صغار وكان يقول لي من تلك الطرائف: « لقد تذكرت -ونحن ندفن- كما هي عادة الصغار آنذاك والدتك، في نفود العجيبة مع أخوالك، وكانت صغيرة لا يتجاوز عمرها ست سنوات أو سبع سنوات، وكانوا يلعبون وهم أطفال مع أخوالي -رحم الله الجميع، وحفظ والدتي-، وكان يسرد إليَّ بعض الذكريات عن أخوالي وعن أعمامي ووالدي -رحمه الله-، وأسمع منه الكلمات الجميلة من ثنائه العطر على ما كان والدي -رحمه الله- يتمتع به من جود وكرم وخلق يذكرني بها في كل مجلس -رحمه الله-. لقد شاع وذاع صيت الشيخ صالح بن سليمان المقيطيب -رحمه الله- إمامًا وقارئًا، وكان صوته وتلاوته التي يسميها البعض: «النجديَّة» لكنها المجوَّدة، لا يملُّ الناس سماعها، وخرجت في تسجيلات جميلة تلقيتها منذ شبابي وأنا أسمعها وأرددها في سيارتي ونسمعها ونحن صغار، بل إننا حفظنا العديد من السور من كثرة ترديدها من صوته الجميل النديّ الماتع الذي يقرؤه بكل انسيابية وترنم، وأصبحت تلاوته وقراءتُه للقرآن مسجلًا كاملًا من حفظه في مسجده «جامع البِشر»، أحد التلاوات الجميلة التي ما انفكت عنّا ونحن صغار وشباب، بل إنها وصلت إلى العديد من المناطق وإلى الدول عبر وسائل التواصل الموجودة حاليًا. وهو كذلك خطيبٌ مفوَّه يحسن اختيار موضوعه، ويلامس قضايا الناس الاجتماعيّة، فما عُرفت عنه خطبة إلا وفيها من الخير والنفع للناس ما يفوق ذلك، كما امتازت خطبه بالاقتضاب والاختصار، ولم تكن مطوَّلة، فامتاز بهذه المزايا الجميلة؛ حسن صوته وجمال نبرته وسبك خطبته، وهذه السمات قلّ أن تجتمع في شخصيات إلا القلائل. ومما أعرفه عن الشيخ صالح المقيطيب -رحمه الله- أنه كان حفيًّا بشيوخه وأساتذته وعلمائه، وكم كان يردد في كل مجلس ومحفل شرف تتلمذه على شيخه الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله-؛ حيث إنَّه كان من الطبقة الثانية من تلامذة الشيخ عبدالله، بل إنَّ الشيخ عبدالله بن حميد رشَّحه للتدريس في الجامع الكبير في تدريس اللغة في الجامع الكبير عند انتقاله إلى مكة للإشراف الديني على المسجد الحرام، رحم الله الجميع. واشتهر الشيخ صالح المقيطيب -رحمه الله- بفصاحته وبلاغته ومعرفته الدقيقة باللغة العربية والإعراب، ومجالسه اللغوية، وتدريسه لألفية ابن مالك خير شاهد على ذلك. ومن استمع إلى كلماته في المحافل الاجتماعيّة في مدينة بريدة يُدرك هذا النفس الجميل من الفصاحة والبلاغة التي حظي بها -رحمه الله-. إن نسيت ولا أنسى أنَّ الشيخ صالح المقيطيب -أيضًا- وفيٌّ ليس فقط بذكر الشخصيَّات التي كانت له فضل عليها بل إنَّه كذلك وفيٌّ بمن زاملوه من أصدقائه وأقرانه ومحبيه، وكان له العديد من القصائد والمرثيات التي لم يكتفِ بكتابتها شعرًا بل أنشدها بصوته الجميل، مثل مرثيّته بالشيخ صالح السلمان -رحمه الله-، ومرثيته في خاله الشيخ صالح بن سليمان الشقيران -رحمه الله-. ومن غريب وجميل صفاته حسن تعامله مع كآفة الطبقات والمستويات فإذا جلس مع العامة فتراه يتبسط معهم ويتحدث بلغتهم وأخبارهم، وكنت أراه بعد تقاعده كل صباح خميس يحضر إلى بعض زملائه في أيام شبابه ويزورهم في دكان معروف في بريده عند «محمد العويد. -رحمه الله- ويذاكر معهم قصصه القديمة. وإذا جلس مع العلماء فتراه في أجمل منطق ومقام وإذا جلس مع الوجهاء كذلك، فهو ذو الهيبة والوقار والرأي السديد والتبصر والتروي إنه مقبول ومحبوب ومقرب عند الجميع بلا ارتياب. لقد فُجعت وغيري بفقده -رحمه الله-؛ لأنَّه كان بلسمًا من بلاسم النقاء والخلق والنبل والوفاء في مجتمعنا، وما أدلَّ على ذلك إلا بتلك الجموع الغفيرة التي زحفت إلى جامع الإمام بن عبدالوهاب -رحمه الله- في مدينة بريدة، للصلاة عليه، فامتلأ الجامع، وضاقت المقبرة، وكان على رأس المشيِّعين والمصلين صاحب السمو الملكي الأمير الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز أمير منطقة القصيم، الذي كان يتابع لحظة بلحظة حالة الشيخ صالح المقيطيب -رحمه الله-، فعرف سموه الكريم فضلَه، وأنزله منزلته، وكان محلَّ العناية والاهتمام كما هي عادة ولاة أمرنا -حفظهم الله- مع العلماء ومع النبلاء والأدباء. وكان شيخنا د. صالح بن عبدالله بن حميد -حفظه الله- دائم السؤال عنه والتقدير والمحبة والثناء عليه. وفور علمه بوفاته طلب مني أرقام أبنائه لتعزيتهم ومواساتهم. هذه الكلمات أحببت أن أقولها في هذا الفقيد الكبير الشيخ صالح المقيطيب -رحمه الله-، والذي خلَّف هذا الإرث العظيم من النبل والكلمات الطيبة التي انهالت عليه بعد وفاته. العزاء موصول إلى أبنائه الكرام؛ محمد ويوسف وعبدالرحمن وسليمان، وأخواتهم، وزوجته. رحم الله الشيخ صالح المقيطيب رحمةً واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وجمعنا به في جنات النعيم، وجزاه عنَّا خيرًا، وعن مجتمعه ووطنه خير الجزاء على ما قدّم. ** **