في حين نترقب حدوث حركة انتقالية لكل الأجناس الأدبية عامة والشعر تحديدًا من مرحلة تمجيد الذات ووصف الوقائع وانطباعات النفس البشرية تجاه القضايا الاجتماعية والعناصر الجمالية في الحياة، الا أن الشعر العربي لا يزال منذ العصور القديمة يدور في فلك العزف على وتر الأمجاد ووصف الذات الإنسانية دون أن يحقق تقدمًا باتجاه آفاق مرحلية تتواكب وحجم التحديات التي تواجه الإنسان وما يتمخض عنها من ظروف قاسية يمر بها العالم اليوم من كوارث طبيعية وأزمات إنسانية عديدة طغت حتى على المشهد الجمالي الذي ما يزال الشعر يستلهم منه مادته وخياله. وكما ذكرت في مقال سابق بعنوان «أزلية ربط الأفكار بالعناصر المكانية في قصائد الشعراء»، فقد بدى واضحًا في المسار التاريخي للشعر محاولة بعض الشعراء التخلص من قيود الرموز المكانية التي هيمنت على الفكر الإنساني وشلت حركات التمرد على النص التقليدي للقصيدة العربية منذ العصر الجاهلي مرورًا بالعهد الإسلامي الأول ثم حقبة الملاحم اليونانية والعراقية وحتى يومنا هذا. وقد نتساءل عن أسباب أخرى لإخفاق الشعر في الوصول إلى مرحلة متقدمة تتغير فيها سمات القصيدة العربية المتأثرة بخصائص الشعر عبر كل العصور الماضية من حيث مقاييس علم العروض وإيقاعاته, ومن حيث الصور البلاغية والدلالات اللفظية. وللخروج من مأزق التمحور المتجذر حول مرجعيات ومصادر الشعر القديم فإن محاولات التمرد على النص التقليدي في القصيدة العربية كانت قد حدثت نتيجة لتفاعل الفكر مع مستجدات وإرهاصات الحقبة الزمنية التي تفرض على الشاعر بأن يجنح بخياله إلى أفق أرحب يساعده على التخلص من أزلية الارتباط التي تفرض عليه تكرير المادة الأدبية وإعادة إنتاجها بنفس الخصائص التي أعطت القصيدة العربية آنذاك علامة أدبية مميزة لا ينبغي تقليدها وإضفاء طابعها الفني على ما يليها من منتج فكري أدبي في عصور لاحقة مثلما نلاحظه اليوم من نزعة الحركة الأدبية للشعر الحديث باتجاه تقمص هوية القصيدة العربية بدءًا من حقبة شعراء العصر الجاهلي أو شعراء المعلقات, مرورًا بمرحلة «أبو الطيب المتنبي» في عهد الدولة العباسية ثم وصولا إلى فترة شعراء العصر الحديث حيث برزت «شوقيات» أحمد شوقي, وقصائد حافظ إبراهيم ومحمود درويش ونزار قباني وعباس محمود العقاد وغيرهم. وباستثناء شعراء العصر الجاهلي، فقد تأثرت القصيدة العربية في العصور اللاحقة بخصائص الأسلوب الفني والوصفي والتعبيري لشعر المعلقات، ولم نلاحظ تغييرًا جذريًّا يمكن أن يعطي للشعر الحديث بصمته الخاصة به ويجعله متفردًا بطابع فني يتلاءم وروح العصر الذي تكتب فيه القصيدة العربية. وكنتيجة للبقاء الاختياري في مدار مؤسسة الشعر العربي الأولى، فقد راوحت القصيدة العربية الحديثة مكانها وبالتالي فقد الشعر قدرته على مواكبة موجات التطور التي حظيت بها كل العلوم والفنون الأخرى. وأعتقد أن جودة الشعر لن تتغير للأفضل لطالما تمسك الشعراء بالجذور التي تشدهم نحو تلك الحقبة الزمنية حيث ولدت القصيدة بسمات خاصة بها لا يجب الارتكاز عليها إلى ما لانهاية لكي يتحقق المستوى المطلوب في جودة القصيدة العربية من حيث رسم الصور البلاغية وإنتاج الخيال الواسع. إلا أنه تم خلال السنوات الماضية القيام بمحاولات إنعاشية تمثلت في إجراء مسابقات شعرية أملا في إيجاد رؤية قد تخدم الحركة الأدبية شعرًا ونثرًا، ولكن هذه المحاولات لم تتمكن حتى الآن من تقديم رؤية جديدة لتطوير وتغيير الصفات الوراثية للشعر القديم بدليل أن أعضاء لجان التحكيم في تلك المسابقات اعتمدوا في نقاشاتهم على معايير نقدية قديمة وليست مستحدثة من واقعهم. ويعود السبب في ذلك إلى أن كثيرًا منهم يفتقر إلى القدرة على إيجاد معيار دقيق لعملية النقد. كما أنهم يطالبون جمهور القصيدة بالمشاركة في التصويت للمتسابقين لأجل سد الفراغ في مجال القدرة على تحليل ونقد القصيدة. ولذلك نجد أنهم أضافوا بعض النقاط التي يعتقدون أنها سوف تسهم في ملء هذا الفراغ مثل عنصر الأداء أو الإلقاء وهو أحد المعايير التي أرى أنها لا تخدم القصيدة من حيث المستوى الفني والإبداعي، ذلك أن قوة الأداء قد تستغل لتغطية عيوب القصيدة أمام لجنة التحكيم والجمهور. وعلاوة على ما سبق، فقد تأثرت القصيدة العربية خلال السنوات الماضية بهزات قوية حدثت نتيجة لدخول العنصر النسائي في خط الإنتاج الشعري من خلال المسار المعاكس لطبيعة المجتمع العربي المحافظ أو الملتزم بتقاليد ثقافية معينة تجعل من القصيدة الغزلية للمرأة شكلاً من أشكال التمرد على الفطرة الإنسانية والأعراف الاجتماعية المتوارثة. فالقصيدة الغزلية للمرأة تستلهم فكرتها من الرجل الذي يفتقد وفقا لتكوينه البدني لأي عنصر جمالي مواز لمستوى عناصر الجمال عند المرأة ذاتها، وبالتالي يكون الشعر الغزلي والهجائي للمرأة نوعا من العبث الأدبي الذي يجب التوقف عن إنتاجه طالما أنه لن يخدم مسار الشعر ويتعارض في نفس الوقت مع تاريخ المجتمع العربي المسلم. وفي تقديري ولأجل النهوض بمستوى القصيدة العربية، فإن إيجاد مخرج لأزمة القصيدة العربية لن يكون مؤاتيًا ما لم يتوصل الشعراء والنقاد والمهتمين بتاريخ الأدب العربي إلى وضع تصورات لاستراتيجية أدبية عامة تحدد إطارًا عامًّا يتضمن ابتكار مجموعة أخرى من قواعد البناء اللغوي للقصيدة العربية بما يضمن عدم إعادة إنتاج النسخة الأصلية لشعر السابقين الذين يمكن الاستفادة من تجربتهم بما يثري الحراك الشعري ويرسم له علامة مميزة من حيث أوزان الشعر ومجال الخيال الفكري عند الشاعر. ** **