عُرف حميد لحمداني بكتاباته في النقد الروائي وبغلبة الهاجس النظري والمنهجي على أعماله، إلى حد محاولته تمثل جل المناهج السردية لتوظيف طرقها في تحليل النصوص الروائية المغربية والعربية، بل وقام في أكثر من مناسبة بترجمة بعض الكتابات النظرية التي تلائم مشروعه غير المستقر. فقد انتقل من الاشتغال بالمنظور السوسيولوجي - البنيوي إلى البنيوية التكوينية في الثمانينات، وتبنى الاسلوبية والموضوعاتية... قبل أن ينتبه إلى ضرورة نقد المناهج ومراجعة مسلماتها ومدى ملاءمتها للنص الأدبي في اللغة العربية! غير أن الكاتب الذي ألف المتتبع صورة عنه، خرج هذه المرة بإصدار مغاير في عنوانه "الواقعي والخيالي في الشعر العربي القديم العصر الجاهلي"، طبعة خاصة نهاية 1997. وإذ يبدو الكتاب مفاجئاً في اختيار موضوعه ضمن مجال الشعر، فإن رؤيته ونهج بنائه ينصرفان إلى بعض ما كان يهتم به حميد لحمداني في كتبه الأربعة عشر السابقة. فموضوعات الكتاب الجديد مرتبطة ببنية الخطاب النقدي الذي صاغه المؤلف: فأفقه النظري يجد في السرديات وموضوعات الحكي أفضل المداخل لقراءة الشعر العربي القديم وتلقيه. كما أن رؤيته العامة تثير أسئلة ذات صلة بالقصيدة في اعتبارها "بنية تتفاعل فيها العناصر التخييلية القصصية والغنائية، وتشكل تجربة مندمجة باللحظة الوجودية للشاعر في بيئته الخاصة". يؤسس الكاتب تصوره للفعل التخييلي والواقعي في الشعر العربي على مبدأ "المقصدية" ذي الخلفية التواصلية التي تجعل وظائف اللغة، بما فيها اللغة الأدبية، موجهة لخدمة الأفكار والتواصل بها، إذ تمثل المعنى المسبق في ذهن الشاعر. لقد كان لذلك في تاريخ الشعر العربي أثره الأكيد. إذ فقد الأدب والشعر وظيفته الأساسية. وإذا كان لاستعمال مفهوم المقصدية حدوداً في الشعر، بسبب الأصل اللساني القائم في اللغة الطبيعية، فإن الكاتب يحاول تجاوزها - باعتبارها مأزقاً نظرياً تختلف من منظوره فاعلية توظيف مفهوم المقصدية بين اللغتين: المتداولة والأدبية - بتحوير الاشكالية إلى تساؤل مفتوح عن الفرق بين أن يكون "الأدب ذا مقصدية متصلة بالتخطيط الواعي للمبدع وبين أن يكون للتجربة الأدبية ناتج لا تسبقه دلالة مضبوطة وواضحة المعالم في ذهن الكاتب". ولعل في الطابع التجريدي لهذا التساؤل وإمكانية تحميله وتوجيهه إلى أكثر من معنى، بحسب تعددية المعنى الشعري، وامتياز الشعر عن النشر - القول العادي - ما حدا بالكاتب إلى محاولة التخلص من اجرائية مفهوم المقصدية، وتعويم دلالته في مفهوم أضعف نظرياً! هو: "المحصلة". إذ يجعل منه فرضية، ما دام الشعر يتجاوز كونه مجرد أداة في يد الشاعر تهدف إلى تحقيق "المقصدية" ليصبح "محصلة تجربته": فحين "ينتهي الشاعر لا يكون قد عبر عن مقصديته، ولكن عن محصلة تجربته، المحصلة بديل المقصدية في التصور المألوف". إلى التردد في استعمال مفهوم المقصدية لخلفيته اللسانية بحصر المعنى، والإقرار بالمجازفة في ذلك، يواجه الكتاب والقارئ معه تعدداً غير مبرر دائماً في مرجعيات القراءة وتحليل النص الشعري عند حميد لحمداني. وبقدر ما يكون ذلك مدعاة تساؤل في مدى مناسبته لمعالجة نصوص من الشعر الجاهلي، بقدر ما يطرح سؤال الملاءمة أو الصلاحية المنهجية للجميع بين أكثر من منهج وتصور نقدي في القراءة. إن مفاهيم الكتاب تعود إلى مناهج وتصورات بلاغية وأسلوبية، كما تتوسل طرائق السرد والتفسيرات النفسانية في القراءة والتحليل. والحال أنها ولا شك خاضعة للمآزق النظرية التي تعرفها كل المساعي الباحثة عن "منهج متكامل" في القراءة والتي عملت نظرية الأدب على تفنيدها باستمرار. يسعى كتاب حميد لحمداني إلى بناء اطروحته على تصور نظري واضح يجعل منه مدخل القراءة والتأويل. لم يعد الشعر الجاهلي وثيقة في عرف الدارسين والنقاد، بل تجربة نصية. فهي تدمج بين الغنائية وعناصر التمثيل الحكائي لتقول التجربة الذاتية للشاعر. وهو ما يسمح باستمرار يتعافى الزمن بالتالي، فمن الشعر الجاهلي يمكن ان "نصنع تجربتنا الخاصة ونشيّد خيالنا أو ربما أوهامنا" يقول الكاتب. خص الكاتب الفصل الأول للتعريف بعملية الانتقال التخييلية التي يحققها الشعر كتفاعل بين العناصر الخيالية والواقعية واستثمار تصويري ولغوي لها في ذهنية الشاعر. فتحديد مفاهيم الواقع والتخييل والخيال منظور "نظرية التلقي" واقتراحات "أيزر" بالخصوص، دفعت حميد لحمداني إلى اعتبار الأدب تفاعلاً لعناصر من الواقع مع أخرى من الخيال. كما دفعته للنظر إلى الممارسة الأدبية عموماً، كفاعلية ناتجة عن الاجراء الذي "تقوم به اللغة داخل النص وفي الخيال"، وهو ما يؤدي إلى التفاعل بين العناصر الواقعية وبين الاجراءات التخييلية ويحقق "نوعاً من الأوهام والرغبات" الايحائية لدى المتلقي. يستثمر الكتاب هذه التحديدات والمداخل لبناء قراءته للنص الشعري الجاهلي: واقتراح نمذجة له. يتعلق الأمر بمستويات الانتقال من الشعري إلى السردي، أو العكس، داخل الرسالة الشعرية المعلنة "عما ستؤول إليه الذات" في كل قصيدة وهي تعمل على ادماج البعدين الوجداني والعقلاني في تجربتها. فالقصيدة العربية "تجربة مندمجة باللحظة الوجودية للشاعر في بيئته الخاصة لا تهدف إلى تسجيل الوقائع وإنما هي رد فعل ابداعي" دال "مندمج باللحظة". كما يتعلق الأمر في ذات الوقت بمجموعة من الأسئلة التي ظلت معلقة في مسار النقد الأدبي العربي بخصوص الشعر الجاهلي... يختار الكاتب موضوعاً منها ليوسع أفقه من منطلق نظري يتأسس في السرد. فالافتتاح الذي يخصه الكاتب بالفصل الثالث الأخير من الدراسة مثير لعدد من الاشكالات الدلالية والتصويرية، وهو محاط بمجموعة من الأعراف والقيم الفنية والمجتمعية في آن، غير انه إلى ذلك يلعب دوراً أساسياً في بناء التجربة التي يشترك فيها الشاعر والمتلقي معاً. فالانتقال والترحل ليس غرضاً شعرياً فقط، بل وحياتياً أيضاً، من اندماجه في التاريخ الجاهلي يستمد قوته البانية للقصيدة وحجة استمراره كتقليد فني استعصى عن النسيان وقاوم الزمن في مطلع كل قصيدة يفتتحها، سواء كان تجربة عاشها الشاعر ذاته، أو عاشها في صورة تقليد شعري سنت قيمته وضرورته. قد يكون كتاب حميد لحمداني مستهلكاً في موضوعه. يكن الرغبة في استثمار المنهج والنظرية الحديثة كما عرف بها الكاتب وتطبيقها على النصّ الشعري الجاهلي قد تحمل للشعرية العربية افقاً آخر للمعالجة من موقع القارئ أو "المتلقي" - الحديث! - ودون النظر إلى فاعلية التطبيق في هذا الكتاب حصراً، أو مدى نجاح ذلك، يمكن اعتباره إشارة مفيدة للآتي من الدراسات قصد العناية والاهتمام.