على مدى سنوات مضت كنت أجمع مادة (علمية) للكتابة حول موضوعين يتكون منهما عنوان هذه المقالة: الأول: مفهوم كلمة (علمي) في تركيب (منهج علمي). الثاني: نقد التراث بناء على المنهج (العملي). ومما شجعني للبدء في الكتابة أمران: الأول: حوار دار بيني وبين الأستاذ والزميل أ.د. راشد العبد الكريم حول قراءات نقد التراث التي ظهرت على يد الكثير من الباحثين العرب كأدونيس والجابري ونصر حامد أبو زيد وغيرهم ممن تتفاوت قراءاتهم جودة ورداءة؛ لكن يجمعهم في رأيي صفة واحدة وهي زعم الانطلاق من منهج (علمي) صارم! وهذه الدعوى في رأيي مغالطة لغوية منهجية تحتاج إلى نقاش طويل سأحاول اختزاله فيما يلي من فقرات. الأمر الثاني الذي دفعني للكتابة في هذا الموضوع المهم قراءاتي في اللسانيات التطبيقية الناقدة وتفاعلي مع المراجعات والنقد الغربي خاصة المكتوب باللغة الإنجليزية، حيث هناك ثلاثة شروط أراها موجودة لا تتوافر في المكتوب العربي الناقد: 1- أن أي قراءة يشوبها ما يشوبها من نقص وتحيز يجري التنبيه عليه مهما كان الناقد متمسكاً برأيه ويرى أن الحق فيما يقوله. 2- أن مفردة (العلمي) تعني شيئاً طبيعياً لا يستجلب معه الإيحاءات الإيجابية المتوهجة التي تستجلبها هذه المفردة باللغة العربية. 3- أن الناقد نفسه يقر بأن نقده عرضة لنقد مضاد وليس كلمة الفصل؛ إنما هو استخدام منهج معين ضمن إطار فكري محدد في ضوء رؤية شخصية غير مجردة من كل ما هو إنساني ولا متعالية عن الرؤى الأخرى حتى المضادة أو المنقودة. بداية بكلمة (علمي)، فالكلمة ترجمة غير دقيقة لكلمة (science)، وتركيب المنهج أو البحث العلمي ترجمة غير دقيقة لتركيب (scientific research)، فيجب أن تؤخذ على أنها مفردة لكلمة العلوم التي نترجم بها مادة sciences المقابلة للرياضيات ولغيرها من المواد؛ فلا ميزة لمادة العلوم عن غيرها من العلوم، والخلط نشأ من أن كلمة (علم) بالعربية ضد الجهل التي ربما يرادفها مفردة (knowledge)؛ بينما كلمة (science) ليست ضد الجهل باللغة الإنجليزية؛ بل هي: تساؤل بحثي يعتمد على التفكير المنطقي والدرس المنظم لإنتاج معرفة جديدة باستخدام أدوات بحثية معينة (انظر مثلا Denscombe, M. 2002:11 ). فالمفردة في العربية تستجلب معها نظماً دلالياً يحمل إيحاءً إيجابياً يرفض أن نوصف بضده بينما لا يلزم ذلك في مفردة (science). فحينما نصف أحداً في نقاش بأنه غير علمي فربما يعد ذلك سبة وانتقاصاً؛ بخلاف نفيها عنه بالإنجليزية الذي لا يستلزم الإيحاء السلبي بحدته. فيجب إذن أن نفهم أن المنهج العلمي ليس علما في مقابل الجهل أو انعدام العلم إنما هو معرفة (تجريبية أو شبه تجريبية أو إمبريقية تطبيقية) بمعنى أدق. وفي سياق الحديث عن حدود العلم (science) الذي أرى أن ترجمته الدقيقة إما (تجريبي) أو (معرفة) أو (طبيعي) يرى دينسكومب (السابق: 16) أن الدين والمعتقدات والفلسفة تهتم بالجانب الروحي والسعادة والأخلاق والمعنى من الوجود، وهذه كلها ليست مجالات للبحث (العلمي) التجريبي الذي يبحث في العالم المادي المحسوس (الفيزيائي) [لا الميتافيزيقي]. وقد تسرّب أو لنقل انتقل استخدام مناهج البحث والدرس التجريبي (العلمي) إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية لكن يبقى العلم (التجريبي الميداني) مختلفاً عن الدين في الخطاب وفي المقاربة وفي المناهج وفي الأدوات التي ينتهجها كل منهما لاكتشاف المعرفة والحديث عنها (انظر لنقاش مشابه: السابق: 17) وأيضاً يختلفان في الغايات والأهداف. وبطبيعة الحال فالمنهج التجريبي خاصة في العلوم الإنسانية لا يمكن أن يوصف بأنه (صارم) لأنه متحيز وفيه من الذاتية والنقص والخلل الطبيعي بطبيعة البشر ما لا يمكن لأي باحث متعمق إنكاره. عطفاً على ما قررناه لا أعتقد أن أي قراءة للتراث - مقدَّسه وبشريّه- تدعي العلمية (الصارمة) - على اعتبار قبولنا بهذا الوصف من الأساس- يجب أن تُعطى أكبر من حجمها ووزنها (العلمي)؛ فهي تظل ناقصة مصحوبة بخلل طبيعي يعترف به العلماء (التجريبيون). ولا أعتقد أنه يمكن لأي دارس تشبّع بالمنهجية (العلمية) أن يقول غير هذا ما عدا بعض العرب الذين ينافحون عن آرائهم ويدافعون عنها باستماتة غريبة! منهم على سبيل المثال عرّاب السفسطة والهرطقة أبو يعرب المرزوقي الذي يتوتر حتى في طرح آرائه في تويتر معتقدا بأنها لا تقبل الجدل أو الفحص والنقد؛ بينما هو في الحقيقة غارق حتى أخمص قدميه في وحل الجشع المادي المؤثر حتماً في أطروحاته السياسية، وهذا غاية الجهل المركب. سأتحدث في المقالة التالية عن النقد بوصفه نشاطاً (علمياً). ** **