المملكة ترأس أعمال الدورة العادية الأولى لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    الأخضر يبدأ استعداده لمواجهة اليمن ضمن خليجي 26    جامعة الملك خالد تحقق المرتبة الخامسة عربيًا والثانية وطنيًا    ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة يصلون مكة ويؤدون مناسك العمرة    السعودية تنظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني فبرايل المقبل    لاجئو السودان يفرون للأسوأ    الجامعة العربية تعلن تجهيز 10 أطنان من الأدوية إلى فلسطين    تطوير واجهة الخبر البحرية    أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    إصدار النسخة الأولى من السجل الوطني للتميز المدرسي    القبض على شخص بمنطقة الحدود الشمالية لترويجه «الأمفيتامين»    اختتام أعمال منتدى المدينة للاستثمار    مشروعات علمية ل480 طالبا وطالبة    "كايسيد" يعزز من شراكاته الدولية في أوروبا    النفط يتراجع بسبب مخاوف زيادة المعروض وارتفاع الدولار    جيش الاحتلال ينتهك قواعد الحرب في غزة.. هل يُفشل نتنياهو جهود الوسطاء بالوصول إلى هدنة ؟    «مستشفى دلّه النخيل» يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    "الشركة السعودية للكهرباء توضح خطوات توثيق عداد الكهرباء عبر تطبيقها الإلكتروني"    كافي مخمل الشريك الأدبي يستضيف الإعلامي المهاب في الأمسية الأدبية بعنوان 'دور الإعلام بين المهنية والهواية    د.المنجد: متوسط حالات "الإيدز" في المملكة 11 ألف حالة حتى نهاية عام 2023م    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع ووزير الداخلية بالكويت يزور مركز العمليات الأمنية في الرياض    أمين عام رابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    فعاليات يوم اللغة العربية في إثراء تجذب 20 ألف زائر    لا تكتسب بالزواج.. تعديلات جديدة في قانون الجنسية الكويتية    رضا المستفيدين بالشرقية استمرار قياس أثر تجويد خدمات "المنافذ الحدودية"    تجمع القصيم الصحي يعلن تمديد عمل عيادات الأسنان في الفترة المسائية    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    تجربة مسرحية فريدة    إن لم تكن معي    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    الطفلة اعتزاز حفظها الله    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هدارة باحث متعمق في النقد التقليدي.. وعبدالواحد خامل الصيت لا يعول عليه في البحث العلمي
نشر في عكاظ يوم 23 - 02 - 2015

نشرت صحيفة مكة تسجيلا لمناقشة رسالة الدكتوراه للطالب سعيد بن مصلح السريحي الحربي. هذا الطالب ليس سوى المفكر والأديب المعروف، الدكتور سعيدالسريحي. هذا الرجل أسهم في إثراء المكتبة السعودية والعربية بمجموعة من الدراسات والكتب أشهرها: حجاب العادة؛ حركة اللغة الشعرية؛ غواية الاسم؛ العشق والجنون وغيرها. ورسالة الدكتواره المشار إليها هي «التجديد في اللغة الشعرية عند المحدثين في العصر العباسي». والأساتذة الذين ناقشوا الطالب هم مصطفى هدارة ومصطفى عبدالواحد ورجل ثالث كان يدير اللقاء بالتعريف وقراءة محضر المناقشة.. وكان يتدخل أحيانا ببعض العبارات المبهمة التي لم تكن واضحة في التسجيل. أما مصطفى هدارة فهو باحث معروف وله كتب جيدة في التأليف والتحقيق، أشهرها كتابه القيم (مشكلة السرقات في النقد الأدبي). وهدارة متعمق في الأدب والنقد التقليديين ولكن مستواه العلمي في النظريات النقدية المعاصرة ضعيف كما سنعرف لاحقا. ولكن يبقى للرجل اجتهاده كباحث جاد ومحترم. أما مصطفى عبدالواحد فهو خامل الصيت ولا يعول عليه في عالم البحوث العلمية.. ويبدو أنه من ذلك النوع الذي يجيد اكتناز الشواهد من أشعار وأخبار في مخزن الذاكرة دون أن يكون له نصيب من القدرة التحليلية والنقدية التي يجب على كل «عالم» وأديب أن يظفر بها. وسيعرف القارئ لم قلنا ما قلنا عند الحديث عن مناقشته للطالب.
بدأت المناقشة بكلمة تقديمية ألقاها السريحي. وهي تتناول مادة البحث ومنهجه. ومادة البحث هي اللغة الشعرية عند المحدثين في العصر العباسي، وقد ركز فيه على أعلام التجديد آنذاك كأبي تمام والبحتري وابن المعتز وغيرهم. والمنهج هو الدرس الأسلوبي/ اللساني للنص الشعري. وهو منهج جديد ولكن له أصولا أولى عند بعض نقاد العرب الأوائل كعبد القاهر الجرجاني. الباحث، صاحب الرسالة، يريد دراسة اللغة الشعرية (وليس كل جوانب الشعر الأخرى كالخيال والسياق السيري للمؤلف ونحوها) دراسة وصفية لا معيارية. وقد شدد السريحي على هذه الفكرة. فالوصف يكتفي برصد حركة اللغة الشعرية داخل النص وما يتلو تلك الحركة من توليد صور شعرية جديدة وعوالم جمالية لم نكن لننتهي إليها لولا توظيف ما استجد من المناهج اللغوية والفلسفية والأدبية. وأما المعيارية فلم يهتم لها الباحث ولذا لن نجد في رسالته مفاضلة أو موازنة بين الشعراء بالطريقة المعيارية التي عهدناها منذ ابن سلام الجمحي وابن قتيبة والآمدي حتى العصر الحديث.
المنهج الألسني هو منهج قديم وحديث في الوقت عينه. ففي القديم، نجد له أصولا عند النحاة الهنود وعند أرسطو وقد ضمنه في منطقه. ولهذا المنهج حضور قوي في ثقافتنا العربية لدى اللغويين والنقاد والفلاسفة. أما في العصر الحديث، فقد طرأ تغير في درس اللغة على يد العلامة دي سوسير كما قلنا في مقالاتنا السابقة عن البنيوية وما بعدها. وأهم ميزة للمنهج اللساني الحديث هي الدراسة الوصفية لتراكيب اللغة؛ أي للطريقة التي تتركب بها العبارات والمعاني التي تنشأ من تلك التراكيب المتباينة. وقد أشار السريحي وغيره إلى أن للجرجاني إسهاما في هذه النظرة وخصوصا في نظرية النظم. وملخص الألسنية هو التركيز على دراسة الجملة أو النص (التراكيب الأكبر من مجرد الكلمة أو المورفيم) في معزل عن السياق اللا-نصي الذي تظهر فيه، أي في معزل عن التطور التاريخي للغة أو عن الأحكام المعيارية التي تنشأ داخل لغة من اللغات. وقد أشار السريحي في المناقشة شارحا بكل ما أوتي من جهد للأساتذة الكرام إلى أن الألسنية الوصفية لا علاقة لها بإصدار أحكام معيارية أو تقييمية.. وأنها قد تجعلنا اليوم نفهم عبارة الجاحظ (المعنى ملقى في الطرقات..) فهما أكثر عمقا. فالرجل الكريم يشبه البحر. ولكن قدرة الشاعر تتجلى في «سبكه» لهذا المعنى بشكل يجعلنا ننتبه للمعنى الذي غاب في «ألفة» الابتذال والاستعمال اليومي المباشر. وهو ما قصده السريحي من فكرة أن اللغة الشعرية «توقظ» المعنى المنسي في نفس القارئ.. وقد رد مصطفى عبدالواحد ساخرا بشكل ساذج لا يليق بأستاذ «ومتى كانت اللغة نائمة لتستيقظ؟». وسنفصل في ذلك عندما نأتي على فكرة «الغموض الفني» وهي فكرة حاول السريحي شرحها ولكن يبدو أن المناقشين الكرام عجزوا عن استيعابها.
إن الألسنية لا تعني فقط أن النص مجرد لباس لفظي لمعان ملقاة في الطريق.. بل تؤكد على أن ثمة معاني تنشأ داخل إطار القصيدة بحيث لو أحلناها إلى خارجها لتلاشى المعنى. فكلمة «سخلها» في قول أبي نواس (لنا هجمة لا يدرك الذئب سخلها..) هي جمع «سخلة» وهي هنا لا تفيد معنى (ولد الشاه) بل (ولد الناقة). فلو أحلنا معنى «سخلها» لخارج نص أبي نواس المذكور لتلاشى المعنى المراد: (ولد الناقة). وسنعرف كيف أن عقل مصطفى عبدالواحد أصيب بالشلل تماما في إدراك هذا المعنى.
إن النص حسب السريحي لا يفيد معاني فقط .. بل أيضا إيحاءات. فاللغة الشعرية توحي .. ولا تنص. إنها «تشير .. ولا تتكلم» لو استعرنا لغة الفيلسوف اليوناني هيراقليطس. إن اللغة الشعرية تهدم نفسها إذ تنص على معناها صراحة...
مصطفى هدارة.. وأخلاق العلماء
كل من استمع للمناقشة سيعرف الفرق بين العالم والمتعالم في الفرق بين المصطفيين: هدارة وعبدالواحد. بدأ هدارة نقاشه للطالب السريحي مركزا على بعض الجوانب الفنية واللغوية.. وبدا فيها هدارة من أصحاب مذهب (قل ولا تقل) في اللغة.. وهو مذهب متكلف يفضي لجمود اللغة العربية ثم تكلسها فتكسرها. لاحظ أني تعمدت استخدام كلمتي «تكلس وتكسر» وهي في عرف المناقشين للرسالة ركاكة صحفية. حينما نقول مثلا (الحداثة كنزعة فنية ...إلخ) فإن (الكاف) هنا حسب هدارة ركاكة لا تليق بالبحث العلمي وهي خطأ لغوي. ويقول إنها ترجمة لكلمة (آز) في الإنجليزية وهذا صحيح. ولكن.. ما المشكلة؟ لم لا نترجم ونضيف على لغتنا ونثريها؟ فاللغة الإنجليزية تستقبل يوميا كلمات جديدة من لغات أجنبية ولم يضرها ذلك بل العكس.. فقد أفادها وجعلها عالمية أكثر وأكثر.
بعد الدقيق اللغوي، ناقش هدارة مع السريحي «صلب» الموضوع. وهنا.. أهيب بالقارئ أن يعيد الاستماع إلى حوار هدارة والسريحي.. فهو درس أدبي ونقدي عظيم جدا. لقد وجدت نفسي بغير شعور أدون كل كلمة يفوه بها الأستاذ والطالب. والنقاش يبدأ مع أسئلة من هذا القبيل: من هو الشاعر المحدث أو المجدد؟ وهل أبو العتاهية محدث أم لا؟ وماذا عن مطيع بن إياس؟ وما معنى التجديد؟ .. وبصرف النظر عن الأجوبة، إلا أن الحوار كان ثريا جدا.
هناك موضوع آخر ممتع ومفيد اشتعل حوله النقاش بين الدكتور والطالب، وهو موقف الأصمعي وابن الأعرابي وغيرهما من الشعر المحدث.. وقد رأى السريحي أن موقف الرعيل الأول كان رافضا للشعر المحدث وذكر الأدلة. واعترض هدارة وقال إن الأصمعي أثنى على المحدثين ولكن الدكتور لم يذكر دليلا ولا شاهدا. وحينما ذكر السريحي شواهد من الأصمعي وابن الأعرابي تؤكد رفضهما للتجديد.. أشار هدارة بطريقة «غير علمية» إلى أن ذلك قد يكون مكذوبا عليهما.
قلنا في المقدمة إن المستوى العلمي للدكتور مصطفى هدارة فيما يتعلق بالنظريات الأدبية والنقدية المعاصرة ضعيف. فلم قلنا ذلك؟ قلت ذلك لأن هدارة وقع في الأخطاء التالية التي لا يقع فيها طالب مبتدئ في النقد المعاصر:
أولا: يقول هدارة إن الألسنية هي «ابنة» البنيوية. وقد صححها له الطالب الفذ وأبان أن العكس هو الصحيح.. فالبنيوية تدين بالفضل في وجودها للألسنية كما استنها دي سوسير وجاكبسون وغيرهما.
ثانيا: عاد هدارة إلى الخطأ ذاته حين سأل سؤالا استنكاريا: وهل تعني أن دي سوسير ليس بنيويا؟ فرد الطالب بأن دي سوسير ممهد للبنيوية ولكنه مات وشبع موتا قبل ظهور البنيوية بل إنه لم يستعمل كلمة «بنية» قط. وكلام السريحي صحيح تماما إذا عرفنا أن المقصود بالبنيوية تلك الحركة التي ظهرت في الخمسينات والستينات مع شتراوس وبارت ولاكان وغيرهم.
ثالثا: وهو خطأ كبير. يشير هدارة إلى أن جاكبسون قد أخذ عن ليفي شتراوس فكرة المفهوم التزامني. ورد السريحي بأن العكس هو الصحيح لأن جاكبسون ازدهر في مطلع القرن العشرين (إبان الثورة البلشفية).. وأن شتراوس ألتقى بجاكبسون في نيويورك بعد أكثر من عقدين من الزمن وأخذ عنه الفكرة. ولكن هدارة رفض بعناد طفولي ما قاله الطالب وقال إن مراجعه ثانوية. والحقيقة بينة ولا تحتاج مراجع فشتراوس نفسه أشار إلى قصة لقائه مع جاكبسون وفضله عليه. ففي مقدمة أول كتبه «البنيوية» (البنى الأولية للقرابة) يشدد شتراوس على «الدين النظري» الذي يدين به لجاكبسون. وفي كتبه اللاحقة لا يخلو فصل أو باب من الإشارة المرجعية لنظريات جاكبسون ورفيقه تروبتسكوي. ويمكن القول إن جاكبسون كان بمثابة «الوسيط» الذي جعل تطبيق لسانيات دي سوسير على الإنثروبولوجيا ممكنا. فمع جاكبسون ورفاقه أصبحت العلوم الإنسانية تملك منهجا صارما كذلك الذي تملكه العلوم الطبيعية. هذا كلام شتراوس طبعا.
رابعا: أشار سعيد السريحي إلى العلاقة بين مكونات الجملة الواحدة من جهة ومكونات النص عامة. وعلق مصطفى هدارة قائلا: هذه الفكرة هي ما يعرف في البنيوية ب (البنية السطحية والبنية العميقة). والحقيقة أن العلاقة بين الجملة والنص شيء مختلف عن مفهومي (البنيتين السطحية والعميقة) لأن المفهومين هما ما اشتهر به تشومسكي عالم اللغة الأمريكي الذي أسس النحو التوليدي أو بالأحرى النحو التحويلي. العلاقة بين الجملة والنص هي علاقة في مستوى واحد؛ أي ليست علاقة ظاهر بباطن كما هو الحال عند تشومسكي.. إنما هي علاقة الجزء بالكل. أما بالنسبة لتشومسكي فالبنية العميقة تركيب نحوي صوري لا وجود «واقعي» له بينما البنى السحطية هي التطبيقات الفعلية لها. وإذا كان تشومسكي قد التقى مع البنيويين في بعض الأفكار إلا أنه ليس بنيويا بالمعنى المعروف عند شتراوس وبارت ولاكان وفوكو. فتشومسكي من اللغويين أو الفلاسفة الذين لازالوا متابعين «للمنهاج الديكارتي» العظيم.. أي لفلسفة الوعي وهي فلسفة مضادة في أصلها الميتافيزيقي لفلسفة البنية.
خامسا: طرح السريحي مفاهيم جديدة على المناقشين له مثل: الغموض، اللغة الشعرية، الوصفية والمعيارية، الانحراف الدلالي.. إلخ. وسأتوقف عند مفهوم «الغموض». فهم مصطفى هدارة الغموض على أنه الإبهام.. استدرك السريحي كثيرا عليه وعلى المناقش الآخر وشرح المعنى. لكن اختلاف المرجعيات النظرية جعل الفهم ينقلب إلى سوء فهم. الغموض عند السريحي هو كما يقول «خلق جو غامض» ؛ أي إعادة ترتيب الصور الشعرية لكي تخلق عالما من المعاني غير المألوفة لدينا. وعبارة «غير مألوفة» لا تعني أنها مجهولة بل «منسية». ويعرف السريحي الغموض مرة أخرى بشكل يستقيم مع التعريف الأول قائلا: الغموض هو امتلاك العبارة لأكثر من معنى أو لأكثر من حقيقة. فإذا كان الكلام العادي يحمل معنى واحدا فإن الكلام الشعري يحمل دلالات متعددة ومفتوحة وهذه ميزة في الشعر لا عيب. واللغة الشعرية غامضة لأنها ليست مباشرة؛ أي لا تملك معنى واحدا بل إنها تشير وتوحي.. وهذا الإيحاء جعلها غامضة. والغموض هنا ميزة فنية عظيمة ولا شك.
كان الدكتور مصطفى هدارة متواضعا في المجمل.. وكان غالبا ما يقر وإن بشكل غير مباشر بتصويبات الطالب وتصحيحاته. وهذا التواضع سمة للعلماء الأجلاء. وقد اختتم هدارة النقاش بالثناء الجميل على الباحث وبحثه. وانتقل المايكرفون بعدئذ لمصطفى عبدالواحد.
هكذا تكلم مصطفى عبدالواحد
هل أنت بنيوي؟ لا. أمال أنت أيه بالضبط؟ سيزا قاسم دي راجل ولا ست؟ هي مسلمة؟ عايزنا نروح نجيب السميولوجية دي عشان نفهم الشعر العربي القديم؟ ألا يغني تراثنا في فهم الشعر عن المناهج الحديثة؟ يا سلااااام. شفت أنت إزاي بتهرب؟ لو أنت أبني أو أخي والله لن أرضاها لك (لن أرضى لك المناهج الحديثة). أنا أتهمك.. أنت رهينة عندنا (قالها مازحا.. ولكنه مزح غير مضحك على الإطلاق). فهمنا يا عم سعيد. لا تظن أننا سنسلم لك بهذا. نحن نشفق عليك. أنت عايز تهرب؟ راجل مات من سبعين سنة (يقصد دي سوسير) نتركه يحكمنا؟ حلوة وصفي ومعياري دي.
عزيزي القارئ.. هذه العبارات الغريبة قالها دكتور يناقش تلميذه نقاشا علميا. ضع نفسك مكان التلميذ. كيف سترد على أستاذ هذه لغته وهذا أسلوبه؟ شخصيا.. سأسكت مادام مصيري الأكاديمي ومستقبلي بيده. سأجعله يسخر مني ويضحك ويضغط علي ليستفزني... فليس لي في الأمر حيلة وهذا وضع جامعاتنا والأساتذة فيها. لكن سعيدا السريحي كان شجاعا.. لم يسكت.. ولذا لم ينل الشهادة ولكنه نال التقدير والاحترام وصارت له مكانة رفيعة في عالم الفكر والأدب.. وظل أستاذه مغمورا لا يرجع إليه إلا كما يرجع النافخ في بوقه إلى بوقه معلنا الحرب .. وليتها كانت حربا شريفة.. بل دسائس مخيفة ومكائد مقيتة.
بدأ الدكتور مصطفى عبدالواحد نقاشه للطالب سعيد السريحي بموعظة حول المنهج الذي يتبعه الطالب. إنها موعظة الجهل. يشرح «المحقق» عبدالواحد بشكل واثق كيف أن البنيوية واللسانيات والسميولوجيا «مضرة» بالعقيدة. نعم. هكذا يرى الأستاذ. عزيزي القارئ.. لو أخذت نصا لامرئ القيس وحللته لغويا (مع استبعاد أية أحكام معيارية أو أية مناهج تاريخية أو نفسية) فأنت بذلك قد وقعت في المحظور وهو محظور قد يفضي والعياذ بالله إلى الكفر والزندقة. هكذا يفهم الدكتور عبدالواحد. ويكرر في كلامه عبارات إيحائية مثل: ثوابت الأمة، الخروج عن إجماع الأمة، الهجوم على التراث. أصيب السريحي بذهول. وأشار إلى أن المنهج الذي يتبعه موجود وإن كان بشكل مضمر في تراثنا العربي. لكن عبدالواحد لم يجيء ليناقش بل (ليتهم) كما قال.
نقاش عبدالواحد ليس فيه فائدة تذكر.. بعكس نقاش هدارة. وعبدالواحدة يمتاز على هدارة بشيء وهو أنه أعلن صراحة أنه (جاهل) بهذه النظريات. فإذا كان هدارة عالما ضليعا في الأدب العربي القديم وغير مطلع على النظريات المعاصرة.. فإن عبدالواحد جمع بين «جهلين» : الجهل بالنظريات المعاصرة كما قال. والجهل بالشعر العربي القديم كما سنعرف بعد قليل. والجهل ليس نقص المحفوظات بل استعمال العقل في النقد والتحليل والفهم.
إذا كان عبدالواحد جاهلا بالنظريات المعاصرة فكيف يصدر حكمه عليها؟ يقول للسريحي: هل تفيدنا الألسنية في فهم الشعر؟ فيرد سعيد: نعم. لكن موقف عبدالواحد واضح.. فهو يرى أن الألسنية والأسلوبية والسيميولوجية والإمام دي سوسير والإمام جاكبسون (كما يصفهما ساخرا) لن يفيدوا في فهم الشعر العربي القديم. السؤال: إذا كان جاهلا بتلك المناهج فكيف يحكم عليها؟ فالقاعدة المنطقية (والفقهية) تنص على أن الحكم على الشيء فرع من تصوره. فإذا لم يكن لديك تصور صحيح للنظريات المعاصرة فإن حكمك فاسد ولا يعتد به.
في مناقشة الدكتور مصطفى هدارة، كان سعيد السريحي مرتاحا وكان الأستاذ يعطيه وقتا طويلا لكي يعبر عن رأيه.. وأكاد أجزم أن سعيدا قد تكلم أكثر من هدارة. وهذه ميزة في الرجل. أما مصطفى عبدالواحد فكان يقاطع الطالب كثيرا ولا يترك له المجال ليعبر عن رأيه أو ليحتج على «الاتهامات» التي وجهها المحقق الفاضل له بشكل صريح أو ضمني. وإذا تفضل الدكتور المحقق وأعطى الطالب المجال للكلام، قال له (ولكن لا تطل).. ثم استسلم الدكتور بشهوة عارمة للثرثرة إلى أن أنتهى الوقت المقرر. لكن مع ذلك.. فالطالب لم يكن طيعا سهل القياد.. بل كان يقاطع الأستاذ وخصوصا عندما يبلغ السيل الزبى، كما تقول العرب. ولا أريد أن أثير موضوع الإيحاءات الاتهامية التي تتعلق بالدين .. فما دخل كون الباحثة سيزا قاسم مسلمة؟ ومادخل كون الطالب والأساتذة والجامعة في مكة؟ .. هذا تلميح لا يليق برجل ذي مروءة. ولو قارنا ذلك مع نقاش هدارة لأدركنا الفرق.. فالدكتور هدارة لم يلمز الباحث في دينه ولا في حبه لتراثه ولغته.
سأختم الآن ببعض الأمثلة حول المستوى العلمي لعبدالواحد فيما يتعلق بمحتوى الرسالة.
المثال الأول : يقول أبو نواس:
لنا هجمة لا يدرك الذئب سخلها.. ولا راعها نزو الفحالة والخطر
إذا امتحِنت ألوانها مال صفوها.. إلى الجو، إلا إن أوبارها خضر.
وجه الاعتراض هنا هو كلمة (سخلها). هذه الكلمة جعلت مصطفى عبدالواحد يظن أن المراد الشاة لا الناقة. وسعيد يحاول تبيان أن المراد الناقة وأن كلمة (سخلها) هو استعارة وأنها لا يجب أن تحمل على معناها الحرفي أو المتداول. وكان عبدالواحد يسأل ساخرا: (السخل ولد مين يا سعيد؟). فلنناقش البيتين.
في المعاجم العربية القديمة كاللسان والصحاح وغيرهما.. «السخلة» في الأصل ولد الشاة من المعز والضأن. ولكن المعنى قد يتسع. يورد صاحب اللسان: «وفي الحديث: كأني بجبار يعمد إلى سخلي فيقتله. السخل : المولود المحبب إلى والديه، وهو في الأصل ولد الغنم». ولذا فكلمة (سخلها) تقبل الإحالة من مدلول (ولد الشاة) إلى مدلول آخر (ولد الناقة). وإذا نظرنا في البيتين لوجدنا ما يعزز المعنى الثاني. فكلمة (الفحالة) وكلمة (الخطر) تدلان على الإبل. والخطر هي الإبل الكثيرة. وقيل الخطر هو الفحل يخطر بذنبه؛ أي يرفعه مرة بعد مرة. وفي البيت اللاحق: كلمة (أوبارها) تدل على النياق لا الشياه. فالمراد بالسخلة هنا ولد الناقة لا الشاة وهذه الدلالة واضحة من سياق النص. وكل من يقرأ النص يعرف أن المراد ولد الناقة لا الشاة.
المثال الثاني: يؤكد السريحي على أن مفهوم البديع عند ابن المعتز مختلف عما نفهمه اليوم من المصطلح.. فنحن اليوم نفهم البديع بالمعنى السلبي.. وهو التزيين والترصيع المبالغ فيه والذي ابتلي به الشعر العربي منذ ما يسمى بعصور الانحطاط. فابن المعتز في كتابه يربط بين البديع والبلاغة ككل. وحينما أقول البلاغة فالمراد هنا هو لغة المجاز من شعر ورواية وقصص وانحراف عن الكلام العادي اليومي. البديع ليس إذن كما ورد لذهن عبدالواحد من أنه المحسنات البديعية التي أسرف النقاد في تبيان «قبحها» إذا ما بولغ فيها وقصِد إليها قصدا.
المثال الثالث: قول كعب الأشقري في المهلب وأولاده (براك الله حين براك بحرا .. وفجر منك أنهارا غزارا). يشير السريحي إلى أن ثمة إبداعا هنا؛ فالشاعر لم يكتفِ بتشبيه الكريم بالبحر.. بل جعله والبحر صنوين. وقد عجز مصطفى عبدالواحد عن استيعابها رغم أن السريحي لم يأل جهدا في التفسير. المعنى واضح. الشاعر وصف كلا بكل.. وليس مجرد جزء بجزء أو كل بجزء أو جزء بكل. وهو شبيه ببيت للأعشى يمدح فيه «المحلق». يقول:
لعمري لقد تاقت عيون كثيرة .. إلى ضوء نار في اليفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها .. وبات على النار الندى والمحلق.
الشاهد هنا أن الشاعر شبه الممدوح تشبيها كليا (استغراقيا) بالكرم. وهذا التعبير يتم بالمماهاة بين المشبه والمشبه به. فالكرم هو المحلق والمحلق هو الكرم. لكن في بيت كعب، تمت المماهاة بين الممدوح والبحر. (ولكنه ليس البحر المالح كما ظن الدكتور عبدالواحد.. أو كما ظن أن السريحي ظن أنه البحر المالح). ففي بيت الأعشى مماهاة بين الممدوح والكرم. (وهذه خطوة في البديع). وفي بيت كعب مماهاة مزدوجة.. أي مماهاة بين الممدوح والبحر.. وهي تنطوي أيضا على مماهاة بين الممدوح والكرم. (وههنا خطوتان في البديع). الدكتور عبدالواحد فهم المماهاة بأنها واقعية لا مجازية.
وفي المثال نفسه.. غلب على علم وظن الدكتور عبدالواحد أن كلمة (البحر) في العربية يراد فقط بها البحر المالح.. والحقيقة أن الطالب سعيد لم يقصر في تنبيه أستاذه إلى هذا الخطأ.. ففي القرآن(مرج البحرين يلتقيان).. وأيضا (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج). وفي اللسان يقول ابن منظور: البحر هو الماء الكثير، ملحا كان أو عذبا. بل إن عجز البيت يقول : وفجر منك أنهارا غزارا. فأولاد المهلب هم أنهار تفجرت من البحر: أبيهم. لا أدري كيف بمن يقدم نفسه عالما في اللغة العربية وأدبها أن يجهل هذا التنوع الدلالي؟
***
انتهت اللجنة التي عقدت في الحادي عشر من رمضان سنة ألف وأربعمائة وثمانية موصية بمنح درجة الدكتوراه للطالب سعيد بن مصلح السريحي الحربي في الأدب بتقدير جيد جدا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.