قبل أكثر من شهر، بدأت، من خلال جريدتنا الموقرة، بكتابة سلسلة مقالات عن الانقسام الحاد، الذي تشهده أمريكا، منذ فوز الرئيس ترمب بالرئاسة، وهو انقسام غير مسبوق، وينذر بالخطر، حسب رؤية معظم المعلّقين والمؤرِّخين، وقد تحدثت في معظم المقالات عن اليمين المتطرف الأمريكي، وهي الشريحة التي لا يُستهان بها، وكانت في حالة شتات وغضب وقلق، خصوصاً بعد فوز أول رئيس أسود برئاسة أمريكا، إذ أيقنت هذه الشريحة حينها أن أمريكا أفلتت من العرق الأبيض للأقليات، وكانت عبقرية مستشار ترمب الخاص، ستيفن بانون، حاضرة، فقد أدرك أن فوز ترمب لن يتحقق، إلا إذا فعل شيئاً مختلفاً، شيئاً يوقظ الشعور القومي، ويوقظ العنصرية الكامنة، ويعيد للحياة الشعور بالتفوق لدى العرق الأبيض، والأهم من كل ذلك هو استخدام إستراتيجية التخويف من الآخر المختلف. لم يتردد المرشح ترمب في استخدام النصيحة، وكان في ذلك مخاطرة شديدة، ففي أدبيات السياسة الأمريكية، قد يفلت لسان هذا السياسي أو ذاك بعبارة عنصرية، ويكون الثمن غالياً، ولكن ليس لدى ترمب ما يخسره، فقد كان أمل فوزه بترشيح الحزب الجمهوري ضئيلاً، ناهيك عن الفوز بالرئاسة، ولذا قرَّر المغامرة، واللعب بالنار، وكان ذلك عندما استخدم في تجمعاته الانتخابية وتصريحاته لغة غير مقبولة ضد اللاتينيين، الذين وصفهم بخرّيجي السجون ومروّجي المخدرات، ثم جاء وعده بمنع المسلمين من دخول أمريكا، وحينها أصبحت تجمعاته الانتخابية تشبه تجمعات مرشح الرئاسة العنصري، حاكم ولاية الاباما الجنوبية، جورج والاس، في نهاية ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي، والذي قال بعض المؤرِّخين إنه يثير الحماس في الجمهور كما كان يفعل النازي ادولف هتلر! لم يكن ترمب نفسه يتوقع أن هذه المغامرة ستنجح، وتجعله يجندل مرشحي الجمهوريين واحداً بعد الآخر، ومنهم ساسة عيار ثقيل، مثل جيب بوش وتيد كروز وماركو روبيو وغيرهم، وكنت قد كتبت حينها أن ترمب يعلم أنه لن يفوز، وأنه دخل معركة الانتخابات من أجل الترويج لشركاته كرجل أعمال ناجح، وكم كانت مفاجأة الجميع كبيرة، عندما نجحت حملته، وحينها أدرك الجمهوريون والإعلام الأمريكي، الذي كان يغطي حملة ترمب من باب التسلية، أن الأمر جد، ولكن الوقت كان فات، فقد أيقظ ترمب شعوراً كامناً لدى شريحة واسعة من الناخبين، ومن الصعب أن يخبو هذا الشعور بسهولة، ولذا فاز بترشيح الحزب الجمهوري رغماً عن الجمهوريين، وفاز على هيلاري كلينتون، في مفاجأة أذهلت العالم، ولكن ثمن ذلك كان غالياً، أي إعادة الحياة والأمل لليمين المتطرف، ليس فقط في أمريكا، بل في كل مكان، وسنواصل الحديث.