الحشرات الرقيقة الطائرة في الشتاء تنفذ من الثقوب الصغيرة للدفء تدلف للبيوت، للأكواخ، للخيام، لكل مكتَنَفٍ آمن من لسع الزمهرير، ودفع الهواء.. تعينها أجنحتها، لكنها هناك لا تستكين.. تحوم، تعترض الأجساد القائمة، والمتحركة، والساكنة.. تذكّرني بتلك الذبابة التي داهمت الشاعر لحظات صلاته، شاغبته حتى شغل بالقصيدة عن الصلاة، وبتلك الحمى التي زارت شاعراً آخر في الظلام، فحرَّضته عن الإعياء بالقصيد، كما تذكّرني بكل ما يربك الإنسان في مأواه، أو يخاتل هدوء فكره، وهجوع حسِّه بمسراه.. كرائحة الحطب، وشواء الكستناء، وصهيل القهوة في أوعيتها على الجمر، فإنها تفعل تماماً كما تفعل الحشرات الطائرة معه، لكن شتَّان بينها؛ فالحشرات تزعج، وتربك، بينما ركائب النسمة والهواء هذه تخالج بالشجن شعورَه، وتحرِّض فيه حسَّه، وتتسلَّل إلى عميق جوانحه.. فكل طائر مع النسمة، والهواء، بأجنحة طبيعية، أو بركوب نسمة عليلة، أو هواء لاعب يفعل في الإنسان تحريضاً، وانبعاثاً، والإنسان يتفاعل مع ما يتاخمه بملمس، سطحاً، وعمقاً!!.. والقاضي منهما بالزوال هو شغب الحشرات.. بينما القاضي منهما بالبقاء هو كل الذي يتسلَّل إلى داخله، ولا يغادر مراكز إحساسه، ربما يبكيه، وربما يفرحه، إما يدلق ذاكرته، أو يوقظ مشاعره، هو ذا هواء الشتاء، أو نسيمه حين يحمل إليه مقتنياته فإنها للاندماج النفسي العميق فيه، ولبسط قراطيس الباطن إما باستلهام كامن، واستدعائه بتفاصيل أبجديته، وإما بتحبير مستجدٍ دلقته محبرةُ اللحظة بأثرها فيه.. إنه الإنسان إما يستلهم، وإما يُلهم، مع كل جناح يطرقه في الشتاء.. فالشتاء موعد الأجنحة، الملموسة، والمحسوسة في الطبيعة من حوله، والطبيعة فيه، وهي تشاغبه فيتفاعل!!..