نعى المشهد الثقافي الأمين السابق لدارة الملك عبدالعزيز الأديب عبدالله بن حمد الحقيل والد وزير الإسكان ماجد الحقيل، الذي وافاه الأجل يوم أمس، بعد أن أمضى حياة حافلة بالعطاء للكلمة في ميادين التربية والتعليم وفي ميادين الكتابة الصحفية، التي كان يطل بها على القراء عبر صحيفة (الجزيرة)، فلقد شغل الراحل العديد من الوظائف والمناصب الحكومية، في قطاعات مختلفة، منها مدير إدارة الكتب والمقررات المدرسية، ومدير مساعد للتخطيط التربوي، ومدير لوحدة الإحصاء والبحوث والوثائق الربوية، ثم عمل أميناً عاماً للمجلس الأعلى لرعاية الآداب والعلوم والفنون بوزارة المعارف، وأميناً لدارة الملك عبدالعزيز منذ 1406ه، وحتى تقاعده 1413ه، ما جعل من مشوار الحقيل-رحمه الله- العملي حافلاً بالعديد من التجارب والخبرات المختلفة، التي جعلت منه حاضراً في ميدان الكتابة، وفي مضمار التأليف، إذ صدر له العديد من المؤلفات، التي لا تغيب عنها تجاربه الشخصية عبر محطاته العملية ما بين مهمة إدارية وأخرى. كما يعد الحقيل ممن أثروا الساحة الأدبية والثقافية لأكثر من ستة عقود، حيث كان فيها حاضراً كمعلم وموجه ومرشد للباحثين والمهتمين، فلقد عُرف عنه -رحمه الله- اهتمامه وشغفه الكبير باللغة العربية، فيما يكتب وفيما يؤلف، وفيما يشارك به في المنتديات والمناسبات الثقافية، حيث كان قد اتجه إلى الاهتمام باللغة العربية وتعلم فنونها المختلفة منذ فترة مبكرة من صباه، فلقد ولد الحقيل في محافظة المجمعة عام 1938 متدرجاً في طلب العلم عبر التعليم الحكومي، ومتخذاً من القراء أولى أدواته التي كونت شخصيته منذ وقت مبكر، حيث خرج من كلية اللغة العربية عام 1958م، ثم سافر إلى بيروت للحصول على دبلوم في التربية المقارنة والتخطيط التربوي من معهد الأممالمتحدة عام 1962م. وابتعث بعدها إلى الولاياتالمتحدة الأمريكية للحصول على درجة الماجستير من جامعة أكلاهوما عام 1973م، في الدراسات العليا في الإدارة التربوية، ليكون الحقيل بذلك من أوائل المعلمين السعوديين الذين التحقوا بالعمل في الجزائر للإسهام في حركة التعريب من خلال عمله أستاذاً للغة العربية وآدابها في كلية المعلمين في هران لمدة عامين بدءًا من 1385ه. وانتدب لتدريس اللغة العربية وآدابها في لبنان 1389ه- 1390ه، حيث عُرف عن الراحل إسهاماته المتعددة في مجالات أدب الرحلة وفنون اللغة اللغة العربية. وقد حظي الحقيل خلال مسيرة حياته العملية والعلمية بالتكريم والاحتفاء من خلال تكريمه في مناسبات أدبية وثقافية. يقول الراحل في مقالة له بعنوان: «أزمة اللغة العربية في مدارسنا»: لماذا يشتكي المعلمون والمربون من ظاهرة ضعف الطلاب في اللغة العربية، ولقد نشأت ظاهرة الضعف اللغوي في عصر مبكر من تاريخ اللغة العربية وأدبها، وتحتفظ كتب التراث بين طياتها بمجموعة من الروايات التي تدل على ظاهرة الضعف اللغوي قديماً، خاصة بعد أن اختلط العرب بالأعاجم وجرى من خلال الاختلاط محاولات هدم اللغة العربية وقواعدها والاجتراء عليها، وظهرت محاولات عديدة وكتب كثيرة حول لحن العامة ومواضع الخلل، ووضعت كتب أخرى في إصلاح النحو، ويأتي في هذا الإطار كتب عدة وبحوث متنوّعة لمجابهة الضعف اللغوي وتوصيات عدة وقرارات، ومقترحات من المجامع اللغوية وأقسام اللغة العربية في الجامعات والمنظمات التي تعقد ندوات حول هذا الموضوع ومناقشة ذلك على مستوى الجامعات والتعليم العام، ويؤكّد البعض أهمية تطوير مناهج تعليم القواعد النحوية وأساليب التعبير في مرحلة التعليم العام، كما أوصت بذلك مؤتمرات وندوات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. وفي (أدب الرحلة) نجد الحقيل صاحب قلم يخاطب عامة القراء، إذ يقول في مقالة بعنوان: «رحلة إلى فاس مدينة العلم والتاريخ والآثار»: قدر لي أن أقوم بزيارة مدينة فاس عدة مرات، حيث حضرت فيها عدة مناسبات علمية وثقافية، ويطيب لي في هذه المناسبة أن أسجل انطباعاتي ومشاهداتي عن هذه المدينة التاريخية العريقة والمركز الثقافي والتراثي، وقد تخرّج فيها كثير من علماء المسلمين وكانت ذات مكانة رفيعة فهي حافلة بالآثار والأمجاد العربية الإسلامية، حيث مرّ تاريخها بحقب وعصور، وكان لعلمائها دور في الدفاع عن الإسلام ونشر رسالته في القارة الإفريقية.. فلقد كانت مدينة فاس هي العاصمة العلمية، وقد أسست في عهد المولى إدريس الثاني سنة 190ه وتوجد بها جامعة القرويين التي بنيت سنة 245ه في عهد يحيى بن إدريس، ولقد ازدهرت هذه المدينة ووصلت أوجها في عهد المربنيين الذين اتخذوها عاصمة لهم، حيث أنشئت بها عدة مراكز ومنشآت حضارية أهمها القصر الملكي الحالي وعدة مدارس، ولقد قمت مع مجموعة من الإخوة الذين حضروا ندوة أبي بكر بن العربي، بزيارة مدرسة المصباحية وسوق الصفارين وسوق العطارين وخزانة القرويين وهي حافلة بالمخطوطات، ثم ذهبنا للمدينة القديمة وشاهدنا أسواقها وبيوتها وأسوارها، ثم انتقلنا للمدينة الجديدة الحافلة بمعالم الرقي والتقدم والحضارة. هكذا ينساب مداد الحقيل فيما يكتبه دفاعاً عن اللغة العربية، أو استبصاراً بما يحفها في زمن العولمة من تحديات، أو فيما يستشرفه من حلول لها من خلال عمله في ميادين التربية والتعليم معلماً، ثم صاحب مسؤوليات إدارية تعددت مهامها، والتقت في شخص الحقيل تجربة ناضجة، وقلم واعٍ، إلى جانب ما يتميز به أسلوبه في سرده لأدب الرحلة بمداد سهل ماتع ممتنع، يجعل من عامة القراء وخاصتهم يقفون معه على أفكر مقالاته، عبر صحيفة (الجزيرة)، ومن خلال ما ألفه من كتب، سعى فيها الحقيل إلى تقديم الفكرة بعرض سهل ميسر، وإلى تدوينها بلغة سهلة تخاطب عموم القراء، وكأنه بذلك معلم للكلمة يحاول إيصالها بيسر ووضح وسهولة إلى كل قارئ يريد أن ينقل إليه خبراته وتجاربه خلال حله وترحاله، قبل أن يرحل عن مشهدنا الثقافي، وقد ترك في الساحة الأدبية قلماً لا تزال حروف مداده وارفة الظلال! أما عن (اليوم الوطني) فقال الفقيد في مقالة له بعنوان «اليوم الوطني يوم مشرق الصفحات وضَّاء المعالم» الذي كتب فيه قائلا: إن هذا اليوم رمز لإنجازات عظيمة ولأعمال جليلة، ففي هذا اليوم أعلن الملك المؤسس عبد العزيز - طيب الله ثراه - قيام المملكة العربية السعودية كياناً إسلامياً عربياً شامخاً، ووضع الشريعة الإسلامية دستوراً للدولة ورفع شعار التوحيد.. وكان يتعامل مع الأحداث في ذلك العصر بوعي وبصيرة فذة.. ولقد كان صادقاً مع نفسه ومع شعبه يملك إرادة صلبة وإيماناً قوياً راسخاً، ولعل هذه الصفات ليست في حاجة إلى دليل أو إثبات لكل من تعرف على حياة الملك عبد العزيز من البداية إلى النهاية، وكفاه فخراً بناء الدولة التي أصبحت مثلاً رائداً ونموذجاً فذاً متميزاً يعيش أهله بنعمة الأمن والاستقرار، وما زال تاريخ المؤسس حافلاً بالعبرة والتجربة الثرية وما تزال صور البطولة فيه أبرز الصور وأبهرها وأكثرها أسراً للنفس. لقد كتب كثيرون عن تاريخه وجوانب من شخصيته وإنجازاته وانتصاراته ومع ذلك لا تزال هناك جوانب عديدة من شخصيته وتاريخه لم تبرز بالقدر الكافي. وفي مقالة له عن «رحلة بين الآثار والمتاحف السعودية» كتب الراحل مما جاء منه: تعدُّ مناطق المملكة العربية السعودية من أغنى مناطق العالم بالآثار؛ فقد عاشت على أرضها حضارات عديدة، سادت قروناً من الزمن، ثم بادت، ولا تزال بعض آثارها بارزة للعيان، غير أن الكثير من آثار تلك الحضارات لا يزال مطموراً تحت الأرض؛ ما يستدعي بذل جهود مكثفة لاستكشافها، واستكناه أسرارها، والقيام بالمسوح الأثرية، وصيانة الآثار وحمايتها، والتعريف بالآثار ودورها في تاريخ المناطق. ولقد قمت بزيارة للعديد من المتاحف في بلادنا، وهي تُعنى بالحفاظ على التراث الأثري والتاريخي؛ إذ تزخر المملكة بالعديد من الأماكن الأثرية والتاريخية التي يعود تاريخها لأكثر من (3000) سنة.. ومن أبرز تلك المواقع الأثرية الحجر مدائن صالح الواقعة في محافظة العلا، والأخدود بمنطقة نجران، وسوق عكاظ وجزيرة تاروت وقصر مارد وقصر حاتم الطائي على سفح جبل آجا وتيماء في الجنوب الشرقي من تبوك، والعنتريات بقصيباء في القصيم، وثاج غربي مدينة الجبيل، كما يوجد في المملكة العديد من المتاحف التي تحتوي على الكثير من التحف الأثرية، منها المتحف الوطني بالرياض، ومتحف الدمام، ومتحف الأحساء، ومتحف مكةالمكرمة، ومتحف الجوف، ومتحف تبوك، ومتحف الباحة، ومتحف تيماء، ومتحف العلا، ومتحف المجمعة، ومتحف الطائف، ومتحف حائل، ومتحف جدة، ومتحف المصمك، ومتحف نجران، ومتحف جازان، ومتحف الحرمين الشريفين بمكةالمكرمة، ومتحف أرامكو السعودية بالظهران، ومتحف صقر الجزيرة للطيران بالرياض، ومتحف الآثار بجامعة الملك سعود.. وغيرها من المتاحف في بلادنا التي تنتظر زوّارها للتعرف على ما تحفل به من مقتنيات وآثار وتاريخ؛ إذ تعد المتاحف كتاباً حياً مفتوحاً، تحضر شواهده من أعماق التاريخ. هكذا يطل فقيد المشهد الثقافي بوصفه أديباً مؤرخاً، وبوصفه مؤرخاً كتب التاريخ بمداد الأدب، في تطواف متنوع المناهل، متعدد الاهتمامات التي تتكامل في قامة ثقافية وطنية، دونت لذاكرة الأجيال المقبلة العديد من الصفحات التي ستظل مشرقة بمداد الحقيل بوصفه المربي والأستاذ وبوصفه الإداري والباحث والرحالة الذي تجول في العديد من دول العالم لا يحمل في حقائبه سوى الكلمة الثقافية، والفكرة الواعية بما يموج به العالم من تحديات وما يواجهه عالمنا العربي والإسلامي من تحديات مرحلية تبدأ باللغة العربية دونما وقوف لأطماع غزوها الثقافي للنيل من كيان الحضارة العربية العريقة وللتطاول على عمقها التاريخي وتهميش دورها على الحضارات من حولها، ما جعل من عبد الله الحقيل قلما نابها، ومنبها إلى كل هذه التحولات بمداد لا يعرف التكاسل وعزيمة لم تثنها عقود العمر وتطواف محطات الحياة ومراحلها، ليظل الحقيل اسماً مشرفاً ومشرقاً في مشهدنا الثقافي بوصفه المربي والمعلم والمؤرخ والأديب والرحالة أيضاً!