إذا عُلقتَ بحبل غليظ يمتد من سماء لا تراها، يؤرجحك كبندول بليد على كل جهات الأرض فهذا خير لك، وبشرى بثمار يانعة عليك أن تقطفها فهي خالصة لك. أول طريق الوحشة وآخره: «لا شيء يعجبني» عند ارتطام عينيك ب (لا) في بداية الجملة تشعر أنك تتهاوى ولا أحد يمد إليك يدًا حتى ذاتك، فلا شيء يعجبها!. تزيد من قساوتها عليك الجملة متى ما اقتنع عقلك بمعناها، فتتمادى في السقوط في براثنها برتابة مملة لاهي قتلتك ولا هي جنبتك العذاب، فدلالة الجملة خطيرة على أي نفس بشرية، فهي اعتقال لأي أمل يلوح في الفضاء، وتسليم ليأس سيستعمرك في نهاية الدرب، فأين تمضي وإلى أين المهرب وكل الجهات هاوية؟!. «لا شيء يعجبني» تُرى هل أراد محمود درويش بهذا طلب المساعدة، أو هو تعبير عن الامتعاض لأسباب حقيقية وأخرى واهية فأحيانًا الترف يبعث مثل هذا الضجر؟!. بلوغ هذه المرحلة الخطيرة يرشدك إلى علاجها «بندر جازي» فيقول: «تعلّق بأغنيتك ودع العالم على رف عتيق» ملخص الوصفة في كلمة «العزلة»، ودوري الآن أن أعدد لي ولك فوائد العزلة على أن تلتزم بتناولها متى ما ضاقت عليك هذه الأرض وضيّقت عليك أنفاسك لترضى بالتنفس من خرم إبرة. العزلة تدفعك للنضج في فترة قصيرة فأنت تقرأ وتكتب فيها أكثر من أي وقت آخر، تمارس حياتك بدون إضافة تعاسة جديد، تمحص من خلال العزلة طبائع الحياة ومن يعيش في كفنها، من بشر وحجر وحيوان وطير، وقد تخلق بينك وبين النباتات علاقة طيبة يمتد أثرها إلى ما بعد رحيلك. في العزلة مراجعة يحتاجها كل إنسان منا ليقف ضد بعض مواقفه وأفكاره ويعيد ترتيب أولوياته، فيها هروب من خلل عقلي ونفسي واجتماعي، يسعى ليرزح فوق صدور الناس ليمسخ إنسانيتهم، ويحولهم إلى وحوش، وفي أحسن الأحوال إلى نسخ تحمل ذات الهوية بذات اللون وذات المذاق، ونفس المسافة بين الواقع أو الخيال. في العزلة تسترد ما ضاع منك من ألق، وتغسل عنك ما وقع عليك من أذى فتسترد عافيتك ورونقك، وتطلع على الدنيا من جديد بدروس جديدة ونفس قادرة على تجاوز العراقيل وتقبُّل التحديات. وبعد أن تجرب كل هذا بنفسك ستعرف أنك مدين للخذلان الذي دفعك للعزلة وأرغمك على الطمأنينة حين كنت الحَب وكانت العزلة هي الرحى. وحتى لا أدخل في دائرة الكذب بقول نصف الحقيقة، سأحيطك علمًا أنك ستقضي حياتك متكئًا على حروف «الماغوط» هذه «كلما كتبت كلمة خسرت صديقًا، وكلما زرعت شجرة يبست غابة، وكلما حصدت سنبلة جعت دهرًا وكلما طمرت حفرة فتحت هاوية» وستشاطره ذات الوجع فلا تبتئس دورة الحياة تتوقف على من هم مثلك إيذانًا بالتعب، لكن دورة العزلة وفية بطبعها، ولا تفعل هذا. فلسفة الهروب عند محمود السعدني: يخلق الإنسان لنفسه بيئة يتكيّف معها، يخلقها لو من العدم، لتكون له الوطن، والحياة التي يتعالى بها على حياته التي لا تفي بشغفه، ولا تمده بترياقه. يزخرف محمود السعدني منفاه الاختياري قبل مفرداته فيقول رحمه الله: «أنا بطبعي رجل قلق لا أستطيع أن أعيش في مدينة واحدة طول العام، وأعشق السفر كتعبير عن حاجتي الشديدة إلى شيء مجهول، وأكثر الأصوات شجنًا إلى نفسي، صوت باخرة تقلع من الميناء في الليل، ويهزني بقسوة صفير قطار في الفجر، ودائما أتمنى لو كنت واحدًا من الذين يركبون فيه».