في ركن من الذاكرة.. يتراءى صوته كأنما يشاهد بالبصر، وفي أرشيف الإعلام تهيمن «ابتسامته» كشاهدة على أصالة الماضي، وشهيدة على نبل الخلق.. حل في استوديوهات «الإذاعة» كرقم صحيح.. ناتجه «حب الناس»، وميزانه «وفاء ذاتي»، ومنزلته «بطولة مرحلة».. وطل في منصات الشاشات «رمزًا مضيئًا»، يجهز «الحوار»، ويرسم «الإعداد»، ويبلور «التقديم» بلغة فاخرة مرصعة بشخصية التهذيب وشخوص الأدب. إنه الإعلامي والمذيع الراحل جميل سمان - رحمه الله - أحد أبرز مقدمي نشرات الأخبار، وأشهر وجوه برامج التلفزيون السعودي في الثمانينيات والتسعينيات. بوجه حجازي دائري، وشارب خفيف، ينعكس على محيا حافل بالبسمة، مضيء بالابتسامة، تتوارد منه مكونات الفرح واستكمالات البهجة، وكاريزما أنيقة تعتمر الزى السعودي النبيل في رسمة شماغ «ثابتة» على الجانبَين في البرامج، وترتفع بخارطة موحدة حين النشرات الإخبارية، مع صوت جهوري ممتلئ بلغة فصحى، ومفردات تتقاطر منها الجرأة والتواضع في آن واحد، وعبارات تطغى عليها الرسمية والتلقائية في اتزان عجيب، يجعل المشاهد أمام «آلة بشرية»، تصنع المهنية بدقة متناهية، ورزانة لغوية، وتركيز معرفي، وارتكاز احترافي. أمضى جميل سمان من عمره عقودًا في بلاتوهات التصوير وأمام «مايك» الإذاعة كوجه مشرق للشاشة السعودية، وواجهة مضيئة للإعلام المسموع والمرئي في زمان مضى ولا يزال عنوانًا عريضًا للكفاءة محفورًا في قلوب المشاهدين وأفئدة المستمعين. في الطائف وُلد سمان وشم روائح الورد في الشفا، وتشرب صفاء ينابيع الهدا، ثم انتقل إلى مكة التي نهل من طهرها سر «التراحم»، ومن سكينتها علانية «البر»، فتوشح صغيرًا بالمرح الذي عانق به والده ووالدته.. بعد كل سنة دراسية كان يأتي بشهادة التفوق؛ لينثرها عبيرًا في حضورهم، وشذى في غيابهم. كان سمان طفلاً يلعب مع أقرانه، ويدون التاريخ في ذاكرته الغضة المكتظة بسير أدباء الحجاز الأوائل قاضيًا وقتًا طويلاً وهو يسمع الأخبار المذاعة والبرامج المنبعثة من راديو والده العتيق، فنشأ مجذوبًا إلى الخبر متجاذبًا مع المقدمة متكاملاً مع نغمات المذيعين وهم ينقلون المعلومة بأصوات مختلفة، فظل يمارس بروفاته اليومية قبل نومه وقبيل دوامه المدرسي مرغمًا معلميه على «اعتلاء منبر الإذاعة المدرسية» صباحًا، واقتناص حصص الرياضة والنشاط لنقل إبداعاته اللفظية، وخوض غمار الإلقاء بقالب يبدؤه بابتسامة «الثقة»، وينهيه ببسمة «الوداع» التي ظلت متلازمته «الفاخرة» حتى رحيله. درس سمان مراحل التعليم العام بمكة، وجنى منها «دافعية العصامية»؛ فعمل في وزارة الأوقاف، ثم المواصلات.. كان معجبًا بصوت بدر كريم، متباهيًا بلكنة حسين نجار، شغوفًا بحنجرة مطلق الذيابي، فشكّلها دروسًا في ذاكرته؛ ليؤنس وحدته بجهر التقديم مخاطبًا نفسه بالإتقان، ومناديًا لمستقبله باليقين. قاده إعلان عابر عن مذيعين للبحث عن ضالته؛ فاستأنس بشفاعة رفيقه المذيع «فيصل عراقي» الذي وجهه بالطريقة، ولم يجتَز الاختبارات وسط أسماء العمالقة آنذاك ممن كانوا «نماذج صعبة جدًّا للمقارنة أو الاقتران»، ولم ييأس؛ وظل متشبثًا بحلمه حتى قاده حظه للقاء وزير الإعلام حينها جميل الحجيلان الذي وضع له جسرًا من حُسن الظن، ودربًا من المعنوية؛ فأثبت وجوده، وعزز تواجده؛ فتفرغ للعمل الإعلامي، وظل متأرجحًا بين الإذاعة والتلفزيون، راكضًا بين ردهاتها وهماتها موزعًا وقته مستفزعًا بحماسه؛ فأضاء شموع «مهارته» بوهج الشغف، وأنار دربه بتوهج الخبرة، وسقى زرع موهبته بعرق جبينه الذي كان «الفيصل» في الحضور و«الحسم» في الترشيح. انتقل عام 1400 من جدة ليتفرغ للعمل في الرياض في المركز الرئيس للتلفزيون، وظل حتى عام 1424. قدم بالإذاعة برامج متميزة، من أهمها «طبيب الإذاعة»، و«أوراق مسافر»، و«بريد المستمعين»، و«لحظة صدق». وفي التلفزيون اشتُهر بتقديم نشرات الأخبار الرئيسية، وبرامج «مشوار»، و«آخر الأسبوع»، و«غدًا أسبوع آخر»، و«فقرة أعجبتني»، وبرنامج «أحداث العالم في أسبوع».. وغيرها تُوفي جميل سمان في شوال 1432 راسمًا لعائلته التبسم رغمًا عن ويلات المرض وصدًّا من ضائقة الظروف. رحل بعد صراع مع حصار الأمراض، وإعصار الظروف متجرعًا «سوءات النكران»، متأثرًا بنتوءات التجاهل التي اعتمرت وجدانه من الإعلام، واستعمرت خاطره من الناس.. عاش متفانيًا مهنيًّا وحانيًا إنسانيًّا، وغادر ما بين أنين من الجفاء وحنين إلى الوفاء.. عرفه المشاهدون مبتسمًا ضاحكًا مستبشرًا خلف الشاشة رغمًا عن أخبار المحن والفتن، وشرفه «مقامه المهني» ليكون اسمًا في قائمة الكبار، ووسمًا في قوامة الاعتبار.. وستظل سيرته فكرة «جائلة» للاحتفاء، ومسيرته عبرة «ماثلة» للاحتذاء.