أما المبرد - وهو الذي عُرف عنه التشدد والتحوط والتثبت قبل الاستشهاد بأي نص وأخذه على سيبويه استشهاده ببيت لشاعر مولد وتخطئته وتصويبه لعدد من روايات الشواهد الشعرية - فقد استشهد بشعره في أحد عشر موضعاً من كتابه (المقتضب). - القُطامي : نص ابن ماكولا على أنه توفي سنة 135 ه (الإكمال : 5 / 40)، وذكر المبارك الإربلي والزركلي أن وفاته كانت سنة 130 ه (تاريخ إربل : 2 / 752 والأعلام 5 / 88)، وقيل غير ذلك، وتجمع المصادر على أن وفاته كانت في القرن الثاني، والقطامي شاعر تغلب بعد الأخطل، وهي من القبائل التي نص الفارابي على إحجام اللغويين عن الأخذ عنها، وقد استشهد أئمة اللغة بشعر القطامي في مواضع من كتبهم، وفي مقدمتهم سيبويه والفراء والمبرد، قال سيبويه : «وقال القطامي : وخيرُ الأمرِ ما استقْبَلْتَ منه وليس بأن تَتبَّعهُ اتِّباعا لأن (تَتَبَّعْتُ) و(اتَّبعتُ) في المعنى واحد». (الكتاب : 4 / 82). - زياد الأعجم : ذكر كثير من علماء التراجم كابن عساكر وابن العديم وياقوت والصفدي أنه قد شهد وفاة الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك وحضر جنازته، (تاريخ دمشق : 20 / 80، وبغية الطلب في تاريخ حلب : 9 / 3919، ومعجم الأدباء : 3 / 1340، وفوات الوفيات : 2 / 29)، ووفاة هشام كانت عام 125 ه، وفي هذا دلالة على أنه قد توفي بعد ذلك، وزياد من قبيلة عبد القيس ولاء أو نسباً على خلاف، وهي من القبائل المستبعدة في نص الفارابي، وله شواهد في كتب اللغة، واستشهد سيبويه والفراء والمبرد بشعره، قال سيبويه : «سمعنا ذلك من العرب، ألقوا عليه حركة الهاء حيث حرَّكوا لتبيانها، قال الشاعر، وهو زياد الأعجم: عجبتُ والدَّهرُ كثيرٌ عَجَبُهْ من عَنزيٍّ سَبَّني لم أضرِبُهْ». (الكتاب : 4 / 179). - يزيد بن الحكم : توفي سنة 110 ه (الوافي بالوفيات : 28 / 45)، وهو من ثقيف إحدى ما استبعد من القبائل في ذلك النص، واحتج بشعره أئمة اللغويين كسيبويه والفراء والمبرد، قال سيبويه : «والدليل على ذلك أن الياء والكاف لا تكونان علامة مضمر، قال الشاعر يزيد بن الحكم : وكم موطنٍ لولايَ طِحتَ كما هَوَى بأجرامِهِ من قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي وهذا قول الخليل ويونس». (الكتاب : 2 / 373). وحديثي السابق عن شعراء القبائل التي استبعدت بالتصريح بذكر أسمائها، أما القبائل الأخرى التي تدخل فيما استبعد ولم يُصرح بأسمائها فمنها شعراء كثيرون عاشوا في تلك الحقبة واستشهد اللغويون بشعرهم، فمنهم على سبيل المثال الأحوص الأنصاري وعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، وهما من الأنصار، وكثير عزة وهو من خزاعة، وسويد بن كراع وهو من عُكل، وشعر هؤلاء كثير، وقد استشهد به سيبويه والفراء والأخفش والمبرد في مواضع عدة من كتبهم. وإذا كان من سبق ذكرهم لا يمثلون إلا بعضا ممن استشهد بشعره في تلك الكتب الأربعة التي شملتها الدراسة فلنا أن نتخيل عدد ما استشهد به من أبيات لجميع الشعراء الذين عاشوا في تلك الحقبة في عشرات المصادر اللغوية التي تزخر بما لا يحصى من الشواهد! وفي هذا دليل على أن ما جنح إليه الدكتور من حمل مراد الفارابي على حقبة زمنية تجنباً لتعارضه مع منهج اللغويين في الاحتجاج يصطدم - أيضاً - بذلك المنهج نفسه . 4 - أن نص الفارابي المشهور الذي نقله أبو حيان في كتابه (تذكرة النحاة) والسيوطي في كتابيه (الاقتراح) و(المزهر) قد ورد بغير تحديد زمني مطلقا، ولم يعقب عليه أبو حيان ولا السيوطي بالتقييد بتلك الحقبة، وإنما تركاه على إطلاقه، بل إن السيوطي قد ساقه في كتابه (الاقتراح في أصول النحو) عند حديثه المفصل عن الأصل الأول من الأصول النحوية، وهو السماع، ففُهم من ذلك شموله عصور الاحتجاج كلها، وهذا هو الصحيح بدليل أن من تحدث بإسهاب عن هذا الأصل النحوي من الأئمة كابن جني في (الخصائص) والأنباري في (لمع الأدلة) لم يستثنوا حقبة من عصور الاحتجاج يُحظر فيها الأخذ عن بعض القبائل في جزيرة العرب. يتبع ** **