يشتكي الزميل الأستاذ إبراهيم طالع من أن اللغويين والنحويين القدماء لم يدونوا اللغة العربية الفصحى كما كانت تستخدم في الجزيرة العربية، وأنهم لم يُعنَوا بعربية منطقته الجنوبية خاصة كما عُنوا بالعربية التي كان يستخدمها عرب شمال الجزيرة العربية في عصر التدوين وقبله. فهو يقول: «ولم نسمع منهم من اعتمد في سماعه على عرب الاستقرار في النصف الجنوبي» (الشرق 2013/12/25). وربما جاءت هذه الشكوى من الاعتماد على مقولة الفارابي المشهورة. وهي التي شاعت في المصادر اللغوية العربية ومفادها أن اللغويين القدماء اقتصروا في تدوينهم لنماذج العربية الفصحى على قبائل ست تسكن أواسط الجزيرة العربية بعيدا عن التنوعات التي كان يستخدمها العرب في المناطق المتصلة بلغات أخرى اعتقادا بأن عرب تلك المناطق تأثروا بتلك اللغات وفسدت لغتهم، ومنها مناطق «عرب الاستقرار في النصف الجنوبي» من جزيرة العرب. ولتبيين عدم دقة شكوى الزميل العزيز ينبغي تبيين عدم دقة مقولة الفارابي التي تقوم عليها أساسا. ومن السهل بيان عدم دقة تلك المقولة بالنظر في المصادر اللغوية والنحوية العربية نفسها. ويبين أي اطلاع عليها أن مقولة الفارابي لا تصور ما قام به اللغويون والنحويون القدماء تصويراً صحيحاً. إذ تشهد المصادر بأنهم لم يَقصُروا أخذهم على تلك القبائل الست، بل أخذوا كذلك من المناطق التي حدد الفارابي أنهم لم يأخذوا عنها، ومنها مناطق «عرب الاستقرار في النصف الجنوبي» من جزيرة العرب قديماً. فقد أوردت تلك المصادر أمثلة من الشعر من مختلف مناطق الجزيرة العربية ولم يستثنوا اليمن (الذي حدده الأستاذ إبراهيم بأنه ما كان جنوبمكة). ويمكن إيراد طرف من تلك الاستشهادات، من لغات اليمن خاصة، مما أوردتُه في بحثي: «قضية الاستشهاد للغة والنحو»، الذي أشرت إليه في مقال سابق. فمن المصادر العربية التي تورد أمثلة كثيرة من «لغات» اليمن، كتاب سيبويه، ومعجم العين، وكتاب الجمهرة. وهي تروي بعض تلك الأمثلة عن أبي عمرو بن العلاء نفسه الذي ينسب إليه قوله: «ما لسان حمير اليوم بلساننا ولا لغتهم بلغتنا»، مما ينفي التشابه بين اللغة العربية التي اشتغل بتقعيدها ولغة اليمن التي عبر عنها بأنها «لغة حمير». ومن تلك الأمثلة ما يرويه الخليل، «قال: قال تُبَّع حيث حج (في الاستشهاد لكلمة «إقليد» المعربة من اللاتينية): وأقمنا به من الدهر شيئًا وجعلنا لِبابه إقليدا» واستشهد بشاعر حميري آختر، «قال: «والقبابة: المفازة، بلغة حمير. قال شاعرهم: وما كان عنز ترتعي بقبابة…». وأورد صاحب الجمهرة: «قال أبو حاتم: قال الأصمعي: قال أبو عمرو بن العلاء: رأيت باليمن امرأة ترقِّص ابنها وهي تقول: يا ربنا من ستره أن يكبرا فَشُقْ له يا رب ملًّا حيِّرا وقوله: «وأخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: قال أبو عمرو بن العلاء: سمعت أعرابيًّا يمانيًّا يقول: فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها. فقلت: يقول: جاءته كتابي؟ فقال: أليس بصحيفة؟». وما ورد في العين عن كلمة (البِلّ)، وقوله عنها إنها بمعنى «المباح» بلغة حمير. واستشهد عليها بحديث نبوي نصُّه: «وهي لشاربٍ حِلُّ وبِلُّ». وأورد سيبويه لرجل من أزد السراة: عجبت لمولود وليس له أب وذي ولد لم يَلدِه أبوان وأن أهل أزد السراة «يقولون: هذا زيدو وهذا عمروُ ومررت بزيدي وبعمري». (ويشهد هذا لصحة نطق الاسم «عمرو» بواو في آخرها، وهو النطق الذي يُعد الآن خطأ ويُسخر ممن ينطقه!). ولمزيد من التدليل على أن المصادر العربية لم تهمل لغات جنوب الجزيرة العربية، تكفي نظرة واحدة إلى كتاب «اللهجات العربية في كتاب سيبويه»، للدكتورة صالحة آل غنيم، 1405ه لنجد أنه لم يتجاهل لغات اليمن (بحسب تحديد الأستاذ إبراهيم). ومن أشهر القبائل اليمانية التي استشهد بشعرها هذيل التي روى عنها كثيرا من الأمثلة، وخثعم، ودوس، وأزد السراة، وغيرها. وقد أشار الأستاذ طالع نفسه إلى كتاب أحمد شرف الدين «لهجات اليمن قديما وحديثا»، 1970م الذي أورد فيه أمثلة كثيرة نسبها اللغويون والنحويون القدماء إلى اليمن ليفعل كما فعل كثير من الباحثين العرب من تأصيل لهجته ليقول بعراقتها في اللغة العربية «الفصحى»! كما أشار كذلك، في الحلقة رقم (6)، إلى بعض الأمثلة التي أوردها النحويون في الدلالة على بعض خصائص لهجات المناطق التي تكلم عنها. يضاف إلى ذلك ما ذكرتُه في مقال سابق من أن ما يقوله الأستاذ إبراهيم عن انبهار الزائرين «الشماليين» باكتشاف كلمات فصيحة في لهجة منطقته دليل واضح على أن معرفة هؤلاء بهذه الخصائص إنما جاءت من معرفتهم بالمصادر العربية اللغوية التي أوردتها. وبغير هذا لا يمكن أن نطمئن إلى «شهادتهم» بفصاحة لهجة تلك المنطقة. وتبين هذه الأمثلة كلها أن «لغات اليمن» لا تختلف من حيث البنية النحوية والبنية الصرفية عما روته المصادر العربية القديمة نفسها من نماذج للفصحى أُخذت من أنحاء الجزيرة العربية الأخرى. فهي تشهد باطراد القواعد النحوية والصرفية فيها اطرادَها في نموذج الفصحى الذي أخذت شواهده من كل مكان في الجزيرة العربية آنذاك، باستثناء عدد قليل من الاختلافات النحوية، وأشهرها أداة التعريف «أم» الجنوبية بدلا من «ال» الشمالية، وبعض المفردات القليلة، وعدد قليل آخر من الاستخدامات اللغوية، رأت أنها مقصورة على لغات تلك المناطق. ووردت أغلب تلك الخصائص المعجمية والتعبيرية في الشعر الذي يخضع لقواعد النحو والعروض نفسها التي تحكم النصوص «الفصحى» الشمالية. وليست هذه الأمثلة من لهجات جنوب الجزيرة العربية الدليل الوحيد على عدم دقة مقولة الفارابي. إذ تشهد المصادر اللغوية والنحوية المبكرة الموثوقة بأن اللغويين والنحويين، وأولهم سيبويه، استشهدوا بنصوص، من الشعر خاصة، من مختلف مناطق الجزيرة العربية ومن المناطق التي نص الفارابي على أنهم لم يأخذوا عنها في حواضر الجزيرة العربية وفي أطرافها مثل قضاعة واليمن والحواضر العربية في العراق والشام. ويعني هذا كله أنه لا يمكن الاعتداد بمقولة الفارابي لاتهام أولئك الرواد بتجاهل أية منطقة في الجزيرة العربية وأطرافها، ومنها المناطق الجنوبية للجزيرة العربية، التي كانت «الفصحى» تستخدم فيها لغة أدبية. وينبغي هنا أن نتذكر قول حاييم رابين في كتابه المشهور «اللهجات العربية الغربية القديمة» (تُرجم إلى العربية مرتين)عن لهجات جنوب غرب الجزيرة العربية: «ويبدو لي أن المادة التي بين أيدينا (من هذه اللهجات) تنتهي بنا إلى لغة ترتبط ارتباطا وثيقا بالعربية الفصحى». إلا أنها: «تمثل لغة غير العربية»!( ص 23)، ترجمة عبدالرحمن أيوب، 1986م). وسوف أعرض في مقال قادم لمنهج اللغويين والنحاة العرب في تدوينهم العربية الفصحى وتقعيدها؛ لأبين أن عملهم يماثل عمل اللغويين والنحويين في الأمم كلها حين يقعِّدون للغاتهم.