تعقيباً على ما نشره د. سعود آل حسين من مقال بعنوان : (نص الفارابي وقراءة النحاة واللغويين) مناقشاً فيه قراءة المحدثين نص أبي نصر الفارابي المشهور وموقفهم منه، وقد نشرته الجزيرة في جزأين : الأول يوم السبت الموافق : 5 / 8 / 1439ه، العدد : 16641، والثاني يوم السبت الموافق : 12 / 8 / 1439ه، العدد : 16648، فقد قسم الدكتور من تناول ذلك النص قسمين، وقال عن القسم الأول : «فريق من الباحثين ناقشه مستدلاً به على سوء المنهجية التي وقع فيها اللغويون والنحاة»، ثم قال معقباً على ذلك : « وقد راح هذا القسم من الباحثين ينعى على اللغويين صنيعهم ويتباكى على ما فقدته العربية جراء ذلك التجاهل...»، بعد ذلك ثنَّى بالقسم الآخر قائلاً : «قسم ثان من الباحثين رجع إلى كتب التراث وبدأ يستظهر النصوص الموجودة فيها والمنسوبة لتلك القبائل التي ورد في نص الفارابي أن اللغويين والنحاة تجافوا لغتهم ولم يأخذوا عنهم ورجع باللائمة على ذلك النص، فقد اشتغلوا بإثبات ما توهموا أنه ينفيه وقوَّلوه ما لم يقله»، ثم قال معلقاً : «نعم هو ضرب من الوهم العلمي ولكن منشؤه من سوء قراءة النص وليس من النص ولا من منهج النحاة». ولم يكتم الدكتور التفسير الذي يراه صحيحاً ويرى أن النص لم يعد بسببه مشكلاً، وهو تفسير يقصر فيه مراد الفارابي على المشافهة والسماع دون الاحتجاج ويقيده بأمرين : الأول : أن الفارابي إنما قصد تقسيم قبائل العرب من حيث صحة الأخذ عنها في تلك المدة - وهي من سنة تسعين حتى نهاية القرن الثاني الهجري - دون ما كان مروياً عن أسلافهم، فقال : «إن النص في كتاب الحروف وفي رواية السيوطي لم يتحدث عن استشهاد ولا احتجاج، وإنما يتحدث عن سماع ومشافهة قصرت عند اللغويين والنحاة على بعض القبائل في القرن الثاني، ولم يتكلم عن المروي عن العرب حاضرة وبادية قبل هذا العصر». الثاني : أن تقسيم الفارابي للقبائل من حيث صحة الأخذ عنها خاص بأهل الحواضر منها، قال : «إن عبارة الفارابي غير مبهمة ولا مستغلقة لكن المشكلة في قراءتها عند جيل من الباحثين ثم تسليم من جاؤوا بعدهم لتلك القراءة، إن عبارة الفارابي هي حديث عن حال تلك القبائل في الحواضر في القرن الثاني». فالدكتور يرى أن نص الفارابي لا لبس فيه، ولكن الخطأ إنما أتى من قِبَل مَن فَهِمه وفسره وبنى عليه بحوثاً وهم أجيال من الدارسين والباحثين . وكنتُ قد نشرتُ مطلع هذا العام في عدد شهر محرم من (مجلة العلوم العربية بجامعة الإمام) بحثاً بعنوان : (قبائل فصيحة وصفها أبو نصر الفارابي بفساد الألسنة دراسة نقدية استقرائية) يقوم في جزء كبير منه على استقراء الشواهد النحوية للشعراء الذين ينتسبون إلى عدد من القبائل التي ذكر الفارابي أن اللغويين قد تركوا الأخذ عنها، وقد أجريت هذه الدراسة على أربعة كتب هن أمهات في النحو والمعاني والإعراب، وهي : كتاب سيبويه، ومعاني القرآن للفراء، ومعاني القرآن للأخفش، والمقتضب للمبرد. ولما كنتُ ممن تناول هذا النص بالدراسة أردتُ مناقشة التفسير الذي قال به الدكتور فيما يأتي من نقاط : أولاً : ذكر الدكتور أن الفارابي لم يرد بكلامه الاحتجاج وإنما كان مراده المشافهة والسماع فحسب، فقال : « إن النص في كتاب الحروف وفي رواية السيوطي لم يتحدث عن استشهاد ولا احتجاج، وإنما يتحدث عن سماع ومشافهة»، ثم قال مستدلاً على ذلك : «ففي عبارة الفارابي الكلام عن الفترة من تسعين إلى مائتين، والسيوطي قال : (لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدؤوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم)، إن الحديث متوجه إلى منهج النحاة واللغويين في المشافهة والسماع في الفترة المحددة بالقرن الثاني». ولا أعلم لماذا حرص الدكتور على الفصل بين الاحتجاج بالنص وسماعه؟ فالأول مترتب على الثاني، إذ لا يقوم الاحتجاج بأي نص إلا إذا كان منقولاً عن الفصحاء، بل إن النصوص التي احتج بها اللغويون أكثر خصوصية وأرفع منزلة في الفصاحة غالباً من النصوص التي لم يحتجوا بها؛ لأن كل نص احتُج به فصيح، وليس كل فصيح يحتج به، ولا سيما إذا تعارض مع نصوص أخرى أفصح منه أو أكثر في ألسنة العرب، وهذا الفهم - أعني عدم قصر ما ورد في نص الفارابي على المشافهة دون الاحتجاج - هو ما فهمه أبو حيان حين نقل إلينا هذا النص معترضاً به على ابن مالك الذي عُني في كتبه بذكر شيء من لغات تلك القبائل كلخم وقضاعة على ما ذكره السيوطي في (الاقتراح) بعد إيراده له؛ لأن ابن مالك كان يحتج لتلك اللغات بنصوص تؤيدها. ولو قصرنا تصنيف الفارابي للقبائل العربية قبولاً أو رداً على المشافهة فحسب فكيف نحمل قوله في النص نفسه عن القبائل التي يؤخذ عنها : « والذين عنهم نُقلتْ اللغةُ العربية، وبهم اقتُديَ»، وقوله عنهم أيضاً : « وعليهم اتُّكِلَ في الغريبِ وفي الإعرابِ والتصريف»؟، فالاقتداء بكلامهم والاتكال على ما نُقل إلينا من لغتهم في مسائل الإعراب والتصريف لا تنهض إلا بعد الاحتجاج بالمسموع عنهم. وللتوضيح فإن قول الفارابي الذي استند إليه الدكتور، وهو : « لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدؤوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم» ليس عاماً لجميع القبائل كما هو مفهوم من سياق المقال ووجه الاستدلال، وإنما هو سبب خاص بحاضرة الحجاز وحدها دون غيرها من القبائل، وهذا نصه : « ولا من حاضرة الحجاز؛ لأنّ الذين نَقَلوا اللغة صادَفُوهم...»؛ لأن صاحب النص قد عُني بذكر ما يمنع الأخذ عن كل قبيلة أو جماعة، فبعضها لمجاورة الأمم الأخرى، وبعضها لمخالطة غير العرب، وبعضها لكونهم نصارى ويصلون بغير العربية. ثانياً : أن الأمر الأول الذي قُيد به التفسير - وهو قصره على مدة زمنية - فيه ضعف لما يأتي : 1 - ما قاله الفارابي في كتابه (الحروف) : « وهم : قيس، وتميم، وأسد، وطيئ، ثم هذيل، فإن هؤلاء هم معظمُ من نُقل عنه لسانُ العرب، والباقون لم يُؤخذ عنهم شيء؛ لأنهم كانوا في أطرافِ بلادهم مخالطين لغيرهم من الأمم»، فمن المسلم به أن ما يُطلق عليه لسان العرب هو ما جمعه الرواة والنقلة مما تكلمت به العرب في جميع عصور الاحتجاج، ولا يتصور أن يَختزله الفارابي في تلك الحقبة القصيرة جداً من تلك العصور بعد أن قصره على عدد قليل جداً من قبائل العرب، ويؤيد هذا الفهم قوله عن القبائل الأخرى : (والباقون لم يؤخذ عنهم شيء)، فشيء نكرة جاءت في سياق النفي فهي عامة، والمعنى : أنه لم يؤخذ عنهم أي شيء. إن قَصْر كلام الفارابي على تلك المدة فقط لا يتسق مع النص، إضافة إلى أن هناك ما يخالفه كما سيأتي، فلا طائل من تطويع النص ليستقيم معه. وشبيه بما سبق ما نقله عنه أبو حيان والسيوطي، وهو قوله : «والذين عنهم نُقلتْ اللغةُ العربية، وبهم اقتُديَ، وعنهم أُخذ اللسانُ العربي من بين قبائلِ العرب هم : قيس، وتميم، وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أُخذ ومعظمُه، وعليهم اتُّكِلَ في الغريبِ وفي الإعرابِ والتصريف، ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخَذ عن غيرهم من سائر قبائلهم»، فهل اللغة العربية واللسان العربي قد أخذا عن ست قبائل في مدة قصيرة؟ الفارابي لا يريد ذلك قطعاً، لكن حديثه متوجه إلى ما نقله العلماء والرواة عن القبائل في جزيرة العرب في عصور الاحتجاج كلها. 2 - معظم الأسباب التي ذكر الفارابي أنها هي المانعة للغويين من الأخذ عن تلك القبائل لم تنشأ قبيل تلك الحقبة الزمنية المذكورة، وإنما كانت موجودة منذ القدم بل حتى قبل مجيء الإسلام، فالمجاورة المكانية لبلاد الأعاجم كقرب بكر وتغلب وغيرهما من الأمم الأخرى كانت قبل الإسلام بعصور، واختلاط بعض العرب بغيرهم كحكم الأحباش اليمن ومخالطتهم قبائلها كانت في الجاهلية، واعتناق بعض تلك القبائل دين النصارى كقضاعة وغسان كانت قبل بزوغ نور الإسلام، فهل يسوغ لنا تفسير كلامه على أنه يريد تخصيص المنع في ذلك الوقت بعينه؟! هذا مستبعد جداً، والذي ينسجم معه ويتسق هو جعله عاماً لجميع العصور التي حددها علماء اللغة، وهي عصور تمتد قرونا طويلة. 3 - لو كان أئمة اللغة لم يحتجوا بكلام من عاش بعد سنة تسعين من غير القبائل الست التي استثناها الفارابي، وهي : (قيس وتميم وأسد وهذيل وبعض كنانة وبعض طيئ) لأمكن حمل النص على هذا التفسير ليستقيم مع منهجهم هذا، لكن الواقع مخالف لذلك تماماً، ففي مصادر اللغة شعر كثير احتج به علماء اللغة لشعراء من تلك القبائل الأخرى عاشوا بعد سنة تسعين بل حتى في القرن الثاني الهجري، وسأكتفي بإيراد بعض من احتُج بشعره منهم في المصادر التي قامت عليها دراستي التي أشرت إليها مقتصراً على المشاهير منهم : - أبو النجم العجلي : ذكر الصفدي أن وفاته كانت سنة 120 ه (الوافي بالوفيات 24 / 43)، أما الزركلي فذكر أنها تأخرت إلى سنة 130 ه (الأعلام : 5 / 151)، وينتسب أبو النجم إلى قبيلة بكر التي صرح الفارابي بأن العلماء قد عزفوا عن الأخذ عنها، ويعد أبو النجم في مقدمة الشعراء الذين أكثر أئمة النحو واللغة من الاحتجاج بشعرهم، وله شواهد كثيرة في الكتب الأربعة التي شملتها الدراسة، ويكفي أن نعلم أن إمام النحويين سيبويه قد استشهد بشعره في عشرين موضعاً من كتابه، قال سيبويه : «وتقول : سِيرَ عليه أيمنٌ وأشْمُلٌ، وسِيرَ عليه اليمينُ والشِّمالُ؛ لأنه يَتَمكَّن، تقول : على اليمينِ وعلى الشمال، ودارُك اليمينُ ودارُكَ الشمالُ، وقال أبو النجم : يأتي لها مِن أيمُنٍ وأشْمُلِ». (الكتاب : 1 / 221). يتبع ** **