يقول صلاح حسن رشيد في مقال بعنوان «بحث نادر لطه حسين في حل معضلات النحو العربي»، منشور في جريدة «الحياة»، ملحق تراث، 25 آب (أغسطس) 2012 ما نصه: «منذ أن اضطلع علماء اللغة بالتنظير والتقعيد، لم يستطيعوا الخروج من دائرة الشواهد الشعرية، بل حصروها في الشعر الجاهلي، متجاهلين القرآن الكريم كرافد أساسي ومصدر رئيس لا غنى عنه عند التقعيد لأصول لغة الضاد، وهو خطأ مشين وسقطة لا تُغتَفر، إذ حصروا جهودهم في تتبع لهجات القبائل العربية، متناسين أن كتاب الله تعالى هو الذي ارتقى بالعربية إلى العالمية، فضَمن لها الخلود والبقاء، وأمدَّها بشرايين النمو والتجدد والحياة، حتى أصبحت أُمَّ اللغات ومعجزةَ الزمان. وظل الحال هكذا إلى أن جاء طه حسين (1889- 1973م)». أثار هذا الكلام دهشتي، لعدم دقته وبعده من الحقيقة، بالإضافة إلى خطورة إطلاق مثل هذه الأحكام القاطعة من دون الرجوع إلى مَن تناولوا العلوم اللغوية والبلاغية من العلماء العرب، على مر القرون، بوعي واستفاضة ومنهج ورؤية ثاقبة تثير إعجاب من يتتبعها. وخلافاً لما ذهب إليه طه حسين، فإن النحاة العرب لم يهملوا القرآن في أبحاثهم، بل أكثروا من الاستشهاد بالآيات القرآنية، فهذا كتاب سيبويه (توفي سنة 180 هجرية)، وهو من أمهات كتب النحو، كثيراً ما يستشهد بالقرآن، وكذلك ابن جني (توفي سنة 392 هجرية)، صاحب نظرية «شجاعة العربية» والعالم المتبحر بدقائق اللغة في كتاب «الخصائص»، لم يترك وجهاً من وجوه الدرس النحوي من دون استشهاد بالقرآن. وإذا كان سيبويه مُقِلاًّ، بسبب أنه مات شاباً، فإن لابن جني ما يزيد على الخمسين كتاباً، وقد انكب الباحثون على مؤلفات هذين العالمين وأفردوا أبحاثاً مستقلة لشواهدهما القرآنية، ويكفي في هذا المجال ذكر رسالتين: الأولى لمحمد إبراهيم عبادة بعنوان «الشواهد القرآنية في كتاب سيبويه: عرض وتوجيه وتوثيق» المنشورة سنة 2002، والثانية لزينب أسعد هاشم سباك بعنوان «ابن جني والشواهد القرآنية النحوية في كتابه الخصائص»، بالإضافة إلى أبحاث عدة ترصد الشواهد القرآنية في المؤلفات النحوية عموماً، مثل «كشاف الشواهد القرآنية في المصادر النحوية»، لفائزة بنت عمر المؤيد، المنشور سنة 1415ه (1996م) عن مكتبة الملك فهد الوطنية. وإذا نظرنا إلى تطور علم النحو عند العرب، نجد أن العلماء وضعوا القواعد النحوية بناء على استقراء كلام العرب، فما وجدوا فيه من اختلافات أثبتوه، كما نجد أن «أهم» ما اعتمدوه في الاستقراء من مصادر هو القرآن نفسه، إذ اعترف الجميع بإعجاز لغة القرآن، وكان القولُ الفصل عندهم على صحة قاعدة نحوية ورودَها في القرآن، لا في قراءة حفص وحدها بل في أي قراءة متواترة أخرى. هذا بالنسبة للاستشهاد بالقرآن، أما عن الاستشهاد بالشعر العربي، فلم يتوقف النحاة عند الشعر الجاهلي، بل تتبعوا في مسارهم التاريخي جميع حِقَب الشعر العربي، وقد جَمعَ كثير من الكتب هذه الشواهد وتعرض لها بالبحث والتحليل، كما خصص أعلام النحاة بعضَ الكتب لبحث المعضلات الشعرية عند أقطاب الشعر العربي، مثل كتاب «شرح مشكل شعر المتنبي» لابن سيده، المتوفى سنة 458 هجرية. وبعد هذه المقدمة العامة، أود أن أتوقف عند محاضرة لطه حسين ألقاها في أوكسفورد عام 1928، وهي محاضرة لم تمر مر الكرام، بل انتشرت في أوساط العلماء واطلعوا عليها، حتى أن الشيخ محمد الخضر حسين (1293-1377ه/ 1876-1958م)، العالم التونسي الذي تولى مشيخة الأزهر من 1952 إلى 1954، نشر عام 1347 ه (1928 م)، بحثاً مستفيضاً عن هذه المحاضرة (يزيد عن أربعين صفحة) في الجزء الثاني من المجلد الأول من مجلة «الهداية الإسلامية» التي أسسها، فنَّد فيه ما ذهب إليه طه حسين. ويبدو لي أن طه حسين تنبَّه إلى خطئه فلم ينشر محاضرته تلك، وإذا كان كلام كاتب المقال أثار دهشتي، فإني في واقع الأمر لا أتصور أن طه حسين كان يجهل بديهيات أصول علم النحو العربي، أي المرجعيات الأساسية التي يستند إليها، كما لم يكن بغافل عن آليات تطور علم النحو واعتماده التراث اللغوي العربي بنثره وشعره، وفي القلب منه القرآن، ولكن يبدو أن طه حسين فعل كما يفعل بعض المثقفين العرب عندما يتوجهون إلى جمهور غربي يبغون إبهاره، فيأتون بنظريات وأفكار لا يستقيم عمادها ويظنون أنهم يستطيعون الإفلات من خلال ثقوب جهل هذا الجمهور. * كاتبة مصرية