ذكرني هذا العيد بأعياد كثيرة مرت علي وأنا بين المحابر في أروقة مكاتب صحيفة الجزيرة محرراً في الملحق الأدبي، أو كتابة مقال لزاوية «هوامش صحفية» الذي كان لا يكتب فيه إلا النخبة ممن رقاهم رئيس التحرير الأستاذ خالد المالك إلى رتبة الهوامش وأصبحوا من كتاب الجزيرة المعدودين. كنا مجموعة من الصحفيين الذين نتبارى بدون أن يشعر أحدنا الآخر في أينا يكون نجم الصحيفة الأول كل في تخصصه، وكان ذلك التسابق المضمر دافعاً قوياً على الاهتمام بالقراءة والمتابعة الثقافية ومعالجة وجوه النقص والتنبه للأخطاء التي تقع وما أكثرها وأقساها، والتقريع أو الملامة يأتي من جمهور القراء أو من رئيس التحرير الذي يغضب ويشتد غضبه إن خاتلناه ومررنا رأياً في ثنايا المقال لم يتنبه له ووجد أنه ربما يسبب له حرجاً، كنا نجتهد بإخلاص لإبداء رؤية فكرية أو نقدية تخدم الوطن؛ إما في الجانب الاجتماعي أو التنموي أو الثقافي، وكان رئيس التحرير يطالبنا بالترفق في معالجة أية ظاهرة سلبية أو نقص أو قصور، ولكن حماسة الشباب والروح الوطنية العالية عند كثيرين منا ربما تدفعه إلى أن تكون المقالة أحيانا عالية الصوت، وفي حالة كتلك وللظن المؤكد أن «دشاً» ساخناً سيواجه أحدنا من أبي بشار يجد كاتب المقال أن الحل الأمثل لامتصاص الغضبة المضرية الاختفاء ذلك اليوم، ولا جوال أو طريقة للتواصل، فص ملح وذاب، وبعد يوم أو يومين تكون الأمور قد هدأت وكأن شيئاً لم يحدث! في صباحات أعياد كثيرة مرت كانت الجريدة تعمل بكامل طاقمها التحريري والفني؛ وكأن الليلة ليس ليلة عيد، ولا اليوم يوم عيد، ومن حسن حظ الجزيرة - آنذاك - أن عدداً كبيراً من رؤساء الأقسام والمحررين والكتاب كانوا عزاباً فكانت الجريدة بيتهم الثاني، وأنا واحد منهم، بل كنت أنام أحياناً في مكتبي الذي أتقاسمه مع زميل آخر وأوصي العم «أبوعوض» موظف السنترال والحارس في الوقت نفسه والمكلف بإحضار «السندوتشات» من «البوفيه» المجاور والمسؤول عن أباريق الشاي التي لا تتوقف؛ أوصيه بلطف وتودد أن يوقظني الساعة الخامسة فجرًا لأنني مكلف بافتتاح الإذاعة والفترة الصباحية والنشرة الأولى، وكانت إذاعة الرياض في السنوات التي أتحدث عنها مطلع عام 1400ه وما بعدها بسنوات يتوقف بثها الساعة الثانية فجرًا ثم تستأنف البث السادسة صباحًا، وكانت المسافة بين الجزيرة والإذاعة لا تستغرق سوى خمس دقائق. لست أدري إلى هذه اللحظة كيف كنا لا نرى الحياة تنبعث إلا من ذلك المبنى المتواضع في الناصرية، وكأن مطبعته التي تحن وتدور ورائحة حبرها النفاذ وصيحات الفنيين حين تتوقف المكائن وماكيتات الصفحات المخرجة واللهاث لتسليم المقال قبل أن ينفد الوقت وانتظار النسخة الأولى من الطبعة الأولى عند منتصف الليل هي العالم كله نستقبلها بكل الفخر والزهو والانتصار حارة ساخنة كمشاعرنا متوهجة كأحلامنا مورقة زاهية كروحنا الشابة المتطلعة إلى وطن عظيم ينهض.