في موسم الالتحاق بالجامعات، أحكي لكم قصتي مع اختيار تخصصي الجامعي، تاركاً لكم تحليل التفاصيل والمعاني. أن تكون طالباً متميزاً في الأسرة السعودية يعني ضمناً أنك ستذهب لكلية الطب أو الهندسة، وطيلة مرحلة التعليم العام والتعبئة المعنوية الأسرية والمجتمعية تشير إلى أنني سأكون دكتوراً. لا يهم التفرقة بين الأمنية والموهبة والميول. غادرت إلى العاصمة وبصحبة أخي طالب السنة الأخيرة بالجامعة ذهبنا للتسجيل وكنت أسأله ماذا أكتب أولاً؛ طب أم صيدلة، ولم يكن السؤال لأن الرغبة تتنازعني بين التخصصين ولكن لأنني لا أعرف الفرق بينهما، ففي قريتنا أو ميدنتنا الصغيرة ننادي الصيدلي دكتوراً والمهم في النهاية هو لقب الدكتور، الذي سيسعد أمي وأبي. بدأت دراسة اللغة وبدأت أتعرف على التخصصات الجامعية، وشعرت بأن الطب ليس مجالي. ذهبت لأرامكو وقبلت لديهم بشرط أن أحضر استمارة الثانوية غير مختومة، مع وعد بابتعاثي للخارج أو لجامعة البترول. ذهبت لعمادة القبول فوقف معي موظف شهم، أسمر نحيل طويل القامة، ووعد بإخراجها كما أريد، بعد إخلاء الطرف من الكلية والأقسام ذات العلاقة. ذهبت لأول مرة في حياتي إلى كلية الطب ووقعت إخلاء الطرف من أقسام عديدة لم أكن أعرفها، وبقي آخر توقيع من المكتبة المركزية، ولم أتمكن منه بسبب مغادرة العميد. كان يوم أربعاء وذهبت نهاية الأسبوع أحدث إخوتي بقراري فأثنوني عنه بحجة أن الطب أفضل والبقاء في الرياض أفضل وهذا حلمك وحلم الأهل، ومازلت في فترة اللغة ويعد مبكراً الحكم بعدم الرغبة في جامعة الملك سعود ...إلخ. تراجعت عن الفكرة، وعدت لإكمال اللغة ثم العلوم الصحية وبدأت أول فصل في الطب ووقتي كان مشتتاً بين الكلية ومتابعة النشاطات الثقافية. كنت متحمساً للحداثة والصراع في أشده مع مناوئيها. في منتصف الفصل حاولت حذف المواد فتم رفض طلبي بحجة تأخري في ذلك وكانت النتيجة مخيبة للآمال، ولشدة الضغوط والتهور كدت أنهي مستقبلي الجامعي بالتلفظ غير اللائق على عميد القبول، ولكن ربنا ستر. بالمناسبة ما زلت مقتنعاً بأنني ظلمت في إحدى مواد الطب وأتذكر أسئلتها حتى الآن! حذفت الفصل الدراسي التالي وعملت بشكل جزئي في العلاقات الطلابية بالجامعة وتفرغت أكثر للقراءة ومتابعة الأحداث الثقافية. انهمكت في القراءة ومن حولي لا يعلمون بحذفي للفصل ويعتقدون أنني دارس جاد. بدأت الفكرة تنضج بترك الطب، كان ميلي للأدب ولكنه لا يؤكل عيشا، فكان القرار اختيار كلية سهلة - العلوم الطبية - لتكون مصدر الرزق والوظيفة وتبقى الثقافة هواية، أسوة بدكاترة كثر. بدأت في العلوم الطبية (عبر حيلة) وعندما جاء وقت التحويل كانت الشروط لا تنطبق علي بسبب تدني معدلي، وبفضل موظف عربي أقنع عميد الكلية - رحمه الله- بقبولي بشرط توقيع تعهد برفع معدلي الدراسي، وقد كانت حيلة أخرى من الموظف لأن ذلك الشرط يعد كلاماً فاضياً وغير قانوني، كما أشار. كنت محتاراً بين أكثر من تخصص وبعد أخذ مواد في قسمين اخترت أحدهما، والعجيب أنني لم أطلع والدي وإخوتي وجماعتي على ذلك سوى بعد عام. هكذا ساقني القدر لتخصص لم يكن في البال أبداً...