لم يبلغ خيال سقراط حينما أطلق عبارته الشهيرة «تكلم حتى أراك» أن تعبر كلمته عن حال العالم الرقمي اليوم الذي يعج بالتفاعل السريع، وربما بالضجيج بين مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي، فكل ما على الفرد أن يطلق العنان لأفكاره، وينشر ما يريد ليكون «مرئيا» في عالم افتراضي لمتابعيه، ولكل الجمهور من كل حدب وصوب، ويفصح عن مكنونات نفسه وآرائه ومعتقداته، فخلف كل منشور على شبكات التواصل الاجتماعي تختبئ شخصياتنا، خلفياتنا، معتقداتنا، وأحلامنا التي نتشاركها بإرادتنا، وربما بغير وعي عما يمكن أن تفصح عنا للعالم أجمع. خلال الأيام القليلة الماضية تابع العالم انسحاب المغنية الفرنسية ذات الأصل السوري من برنامج «ذا فويس» بسبب منشورات لها على مواقع التواصل الاجتماعي، تصف فيها الحكومة الفرنسية بالإرهاب على خلفية هجوم «نيس» الإرهابي، مشككة بالمعلومات الرسمية التي بثتها الحكومة، بالإضافة لمتابعتها لشخصيات مثيرة للجدل. عملية التنقيب في حساب المغنية منال ابتسام كانت هي المسؤولة عن انسحابها من البرنامج، ومسحها للمنشورات على الفيسبوك، وتقديم الاعتذار لجمهورها وجميع الفرنسيين، كما أن عملية «قَص الأثر» لحسابها هي المسؤولة عن تراجعها عن تحقيق حلمها في أشهر برنامج غنائي، حيث كشفت العملية عن التوجهات، والمتابعين المشبوهين الذين تتابعهم، ففي العالم الرقمي والشبكات الاجتماعية حري أن نقول «قل لي من تتابع أقل لك من أنت». وبعدها بأيام أطاحت مفضلة مدير مدرسة ثانوية لفيديو إباحي على تويتر بسمعته، ليقدم على أثرها بطلب تقاعد مبكّر، ورغم الكفاءة والشعبية التي يتمتع بها مدير المدرسة الأمريكية في كونيتيكت، والدعم من الطلبة السابقين والعاملين معه بعد الفضيحة، إلا أن كل ذلك لم يشفع له في تجاوز تفضيلاته الشخصية المنافية للآداب، التي استدعت إيقافه للتحقيق في الواقعة، بعدها تم التوصل إلى اتفاق مع مسؤولي التعليم بمنطقته لتقديم طلب تقاعده. لا يمر أسبوع أو شهر دون أن نسمع عن مثل تلك الحوادث، فحسابات الشبكات الاجتماعية سيرة ذاتية علينا أن نحسن صياغتها ونتفنن في إبراز ما يميزنا، فلم تعد السيرة الذاتية الدليل الكافي على كامل مؤهلاتك العلمية والعملية، بل أصبحت حساباتك الشخصية على السوشال ميديا سيرة أخرى أكثر أهمية، تقرأ أفكارك، وتفصح عن مكنونات نفسك، وتوجهاتك الفكرية واهتماماتك، ومدى ثقافتك، وربما تفصح عن حياتك الخاصة ومشاريعك المستقبلية. تفريطنا في استهلاك الحسابات الشخصية للحديث والمشاركة بكل موضوع أو حدث، يجب أن لا ينسينا عن الأثر الذي نتركه ولا يمحى حتى لو حاولنا حذفه بعد حين، وعشقنا للتفاعل والمشاركة يجب ألا يصرفنا عن حماية الخصوصية في حياتنا، وأن نحتفظ بهفواتنا وأخطائنا بعيدا عن أعين قصاصي الأثر ومنقبي حسابات السوشال ميديا، فالتاريخ الرقمي لا يمحى، ولا يغفر لمستخدمه مواقفه وآرائه السابقة.