إلى صديقتي الروسية ماريا التي تحب ثقافتنا المحلية، وارتدت ذات يوم معي الثوب العسيري. كانت النساء الجنوبيات في وطني يا ماريا الجميلة يستيقظن باكرًا، ويرسمن الحياة على جدران غرف منازلهن الصغيرة بأيديهن المحناة والمبللة بماء أوديتهن العذبة، وعندما يسترحن كن يغنين، ويرقصن خطواتهن المفعمة بكادي الحياة. كن يا ماريا يرقصن ببهجة، وهن ينهين جزءًا من جدارياتهن الفنية المنزلية، ولم يكن يعلمن أنهن تركن (قَطْهُن) للعالم ليتحدث عن فطرتهن الجمالية التي امتزجت بالمطر، وبصباحات الركبان، وبتغاريد طيور أرضهن الجبلية، وبموسيقى عيونها الجارية. أولئك الجنوبيات يا ماريا، الممتلئات برؤى فنية جمالية، كان لديهن وعي عميق بعلاقتنا كبشر بالطبيعة وتأثير ما حولنا علينا، فنثرن في بيوتهن عبر رسومات تجريدية ذات ألوان مشرقة غمسوها في أرواحهن الجمالية، فنثرن بهجة الأحمر المحب، وشموس الأصفر، وخبأن حياة حقولهن الخضراء الوارفة بينها، وأمطرت أيديهن سحب الأزرق الرقراق وامتلأن ببهجة الحياة، فارضعنها صغارهن. أولئك الجماليات يا ماريا رسمن الطبيعة من حولهن برمزية فاتنة، مثلثات تصطف بجوار بعضها البعض، ومستطيلات ومربعات تراقص بعضها البعض وبينهما سنابل خضراء صغيرة هامسة، ولم يتركن الأبواب صامتة وحيدة بل لفوها بألوان الحياة. أرادت أولئك الفنانات يا ماريا اللواتي اتدفق منهن أن يؤكدن أن الجمالية صوت إبداع نساء، لم تكن يا ماريا في أيامهن مدرسة للفن مثل مدرسة موسكو العريقة، ولم يكن لديهن ألوانًا زيتية أو فراشي رسم، فهن صنعن كل شيء بأيديهن التي تتلمس أوردة الفنون في البيئة التي تحيط بهن، فراشيهن من أصواف أغنامهن، وألوانهن من أحجار ونباتات نمت حولهن، وتعرفهن جيدًا، تحولت معهن لألوان مشرقة، وكانت جدران بيوتهن هي الاستاند الدائم، بل هو المشهد الذي يبث في أهل البيت وضيوفه البهجة، فأذهل قَطهم العابرين بهم من الأمم الأخرى من المستشرقين والزائرين، ما أتحدث عنه يا ماريا هو فن القط العسيري الذي أدرج في ديسمبر الحالي في القائمة التمثيلية الخاصة بالتراث المادي لدى الأمم التابعة للأمم المتحدة. أما هو فن القط العسيري يا صديقتي! فهو فن تزيين المنازل من الداخل وكانت تقوم به النساء مستخدمات الطبيعة، حيث كن يرسمن أشكالاً هندسية فاتنة، وقد اعتبر (القَط) من الفنون التجريدية، ونشأ في منطقة عسير، وأثبت هذا الفن نظرة المرأة الجمالية منذ القدم. وكانت النساء يا ماريا تتعاون مع بعضهن البعض في زخرفة بيوتهن، وملأها بازاهير الجمال. اتذكر أننا أنا وأنت كنا نتحدث عن تلاقي ألوان الملابس التراثية الروسية مع ألوان ملابس المرأة في جنوبنا عبر اللون الأحمر المشع بالفرح والحب واتفقنا أن النساء القرويات يتشابهن بشكل أو بآخر. بالنسبة لي يا ماريا يمثل إدراج القَط العسيري في قائمة منظمة اليونسكو العالمية احتفاء بكل النساء الجماليات، واعترافًا عالميًا بدور المرأة في وطني في تحقيق مفهوم (الجمالية) منذ القدم، واحتفاء بالفنانة الجمالية الرائدة فاطمة أبو قحاص التي تمنيت لو أنني التقيتها وكنت معي، واحتفاء بكل من آمن بجزء من هويتنا الجمالية التي كادت أن تندثر. وبعد أن انتقل فن (القَط) إلى العالمية، نعم يا ماريا وأعلم أنك سوف تساءلين ببهجة عن ماذا بعد؟ وماذ ا يحتاج هذا الفن العريق منا كما تفعلون مع فنونكم؟، نعم هو يحتاج ويحتاج الكثير منا لأنه يمثل جزءًا من هوييتنا الثقافية والاجتماعية والتاريخية ولأننا في رؤية 2030 التجديدية، لذلك لا بد أن يكون في مناهجنا الدراسية الفنية منذ المراحل المبكرة، وأن يٌعّلم عبر ورش فنية متخصصة عنه، كما يحتاج توثيقه عبر كتب تترجم إلى عدد من اللغات الحية ومنها لغتك، وأيضًا لا بد من دعم الفنانين المهتمين به وتذليل الصعوبات، ودعمهم ماديًا لإقامة معارض فنية سنوية عنه في مناطق المملكة ودول الخليج والعالم وأن يصاحب أيامنا الثقافية في الخارج. وبعد يا ماريا، أعتقد أن أولئك الفنانات الرائعات كن يتماهين مع رأي انتوني ليسي (الكون شكل هندسي خالص). ** **