بين الكتابة عن الفنانة التشكيلية فاطمة أبو قحاص حية، والكتابة عنها بعد موتها، أحداث وقصص وإنجازات كبيرة، إذ كانت واحدة من بين نساء ألمعيات يرسمن الحياة باللون، ويقاربن الواقع بشيء من خيالات الفنّ وأذواق النساء، يكفي أنه لا يكاد يُذكر فنّ «القطّ العسيري» اليوم إلا وتكون الأكثر حضوراً وذكراً. وإن لم تكن الأبرز بين النساء الألمعيات اللائي برزن في هذا الفنّ كما يقول الباحثون، لكنها كانت الأكثر حضوراً واهتماماً وممارسة، بل ينسب لها الباحثون في فنّ القطّ الفضل في عودة الاهتمام به وإبرازه بشكل لافت، وكان نتيجة هذه العودة اعتماد فنّ «القطّ العسيري» ضمن التراث العالمي غير المادي لدى اليونسكو، وقبله كان الحدث الأهمّ في مسيرة هذا الفنّ عرض جدارية «القطّ» في الأممالمتحدة بنيويورك أواخر عام 2015، نفذتها 12 امرأة باسم «منزل أمهاتنا» بطول 18 متراً. الفنانة «فاطمة أبو قحاص» اتخذت الفنّ التشكيلي وسيلة للتعبير، ولا يكاد يذكر فنّ التزيين والزخرفة والنقش الذي اصطلح على تسميته ب«القطّ» (بفتح القاف وتسكين الطاء المشددة) إلا وتكون في مقدمة النساء اللائي أعدن لهذا الفنّ روحه وحضوره، ومع أنها ماتت منذ سنوات إلاّ أنّ أثرها بقي شاهداً عليها. ولدت فاطمة أبو قحاص وعاشت في قرية رُجَال في محافظة رجال ألمع، إذ كانت تمارس أمومتها وحياتها الخاصة كما يقول عنها الباحث في التراث علي مغاوي، إلى جانب اشتغالها بالفنّ، فكان آخر ما أنجزت في حياتها تجديد النقش في بيت ابنها الكبير «محمد علي الزهر»، كما نقشت جميع بيوت أبنائها، وبيت ابنتها الوحيدة. عاشت «أبو قحاص» مع أبنائها في قرية رجال الأثرية، تتنقل حسب رغبتها وراحتها، تمارس الفن منذ صباها على اعتبار أنها أخذته عن والدتها آمنة بنت محمد بن هادي، معتمدة على الخامات المحلية، لتأخذ مع الوقت مكاناً فنياً جيداً بين خبيرات النقش في القرية. كانت تعيش وقتها في حالة تركيز ذهني واهتمام كبير بكل ما حولها، وليعبر الفنّ عن حالتها النفسية التي تنعكس على درجة توظيفها لقوة اللون، كما أن تلك الجداريات كانت تعبّر عن حزنها الشديد عندما لا تجد من يحمل مهمات هذا الفن بعدها، وتعبّر كثيراً عن أسفها لذلك، ومن شدّة حرصها على الفنّ وديمومته استعدت بأي جهد يمكنه الإسهام في إبقاء هذا العمل، ويحول دون انقراضه. يعدها الباحث مغاوي الرائدة الوحيدة لهذا الفن في وقتنا الحاضر، وصاحبة الحضور الفني التلقائي المميز الذي تبدأه بخطوط العمل الأولى، ثم تملي عليها الموهبة والحس الفني كل تفاصيل العمل، وتقودها ذائقتها الفنية إلى إبداعات كبيرة. تقول عنها ابنتها الوحيدة صالحة بنت علي الزهر في كتاب «رجال... ذاكرة قرية عربية»: إنها لا تنفك ترسم وتخطط حتى في غير ساعات العمل، هي جادة في أداء عملها وفي تعاملها مع فنها بقدر حاجتها في حياتها، فخورة به، متتبعة لآراء الناس فيه، ودرجة إعجابهم به. امتازت شخصيتها العامة بالجدية، كما أن تفاصيل حياتها خلال شبابها لم يكن فيها مجال للترفيه إلاّ أنّ حسها المرهف ومسؤولية الأمومة التي حملتها أمام صغارها في غياب الأب، الأمر الذي شكّل حياة فاطمة أبو قحاص تشكيلاً مختلفاً ومميزاً في الوقت ذاته، إذ لا مجال فيه لغير الجدية والمثابرة حتى في دقة الاستماع للمتحدث، وتوخّي دقة الإجابة، ودقة الطرح والصدق. يؤكد مغاوي أنّ أعمالها التي قدمت كانت كفيلة بحفظ البصمة الفنية والحضارية لهذه المبدعة التي لا ينكرها التاريخ، فقد امتازت بالدقة والقدرة الحسابية الكبيرة في الجمع والطرح، وربط الأمور عند استحضارها للتواريخ والأحداث، وتعتبر مرجعاً في كثير من صلات القربى بين أهل القرية، ويأسرك حديثها الخالي من أية مجاملة أو مداهنة، كما تبهرك بصراحتها، ووضوح رأيها، وجرأة نقدها بقول الحق. فاطمة كما وصفها الباحث الفرنسي موجيه ذكر الكاتب والباحث الفرنسي تيري موجيه في كتابه «الجزيرة العربية حديقة الرسامين.. الهندسة المعمارية والفن الجداري في عسير»، أن فاطمة أبو قحاص تقاسمت مع «شريفة بنت أحمد» الامتياز المتمثل بزخرفة مجمل البيوت الحديثة في «رجال»، وفي ما يجاورها من مناطق، وأن منافسة عنيفة كانت تقوم بينهما، فالعائلة التي تجمعها صلات قربى بإحداهما كانت تدعو هذه بدلا من الأخرى لتزيين غرفة الجلوس، أما خارج الوسط العائلي فقد لجأ البعض إلى دعوة هاتين الرسامتين، لأنهما قد حازتا شهرة في المنطقة كلها. ويضيف موجيه أن الفنانتين كانتا تعملان آنذاك للكسب، إذا فهمنا من ذلك أهلية الربح المترتب على الموهبة المتميزة والشهرة الواسعة فالمنافسة والمزاحمة هما الحافزان اللذان يدفعانهما لتجاوز الذات باستمرار. ويفسّر موجيه هذا الاضطراب بين الفنانتين، وأنه كان يزداد خصوبة وعطاء، نظراً لكونهما الوحيدتين في ميدان المنافسة، وانتقال هذا التنافس إلى المعجبين بالفنانتين؛ إذ يذكر أحد المعجبين بلا شرط أو قيد ب«شريفة» أنها تتفوق على «فاطمة» بأنها كانت ترسم بيد مرفوعة دائماً، بينما تستعمل فاطمة الثانية مسطرة! يؤكد موجيه الذي زار الفنانة في بيتها وأقام في قريتها ما يزيد على 4 أشهر ليكتشف العديد من جماليات فنّ القطّ العسيري، أنّ السكان المحليين ما زالوا يصرّون على المقارنة بين الفنانتين، رغم غياب شريفة المفاجئ إثر حادث مأساوي وقع لها عام 1995، لدرجة أنهم أوجدوا بين الرسامتين شرخاً يضطر كلّ منهما لاتخاذ موقف محدد من هذه أو تلك. وبعيداً عن هذا الخلاف الذي يذكره موجيه فإنّ هاتين الشخصيتين الرمزيتين من خلال «رجال» تقدمان لنا من خلال نقوشهما البديعة معيارا دقيقا لحساسية جمالية مشتركة. انتقلت فاطمة أبو قحاص إلى جوار ربها في عام 2010 عن عمر يناهز 90 عاماً، وفازت بجائزة أبها لعام 1418ه، في الخدمة الوطنية، ونالت جوائز وشهادات تقديرية من اللجان التراثية في منطقة عسير، واختيرت كأشهر شخصية تراثية في مهرجان الجنادرية لعام 2007. مخلفة وراءها فنّ القطّ العسيري الذي بات هوية سياحية لمنطقة عسير، وسيدات أشهرهنّ هذا الفنّ، وأصبح مصدر زرق لكثير من الفنانات والفنانين. ترسم على «التراب».. ولم تنسَ صندوقها الخشبي عاشت «فاطمة أبو قحاص» كما يقول عنها أحد أقربائها «محمد أحمد الزهر»، أحد الذين عايشوا تجربتها عن قرب، مغرمة بهذا الفن الذي أصبح مع الوقت جزءاً من حياتها اليومية، إذ تعتبر من أوائل من أحيا هذا الفن بعد رحيل رائداته كجحاحة بنت بريدي، وشريفة بنت أحمد، وفاطمة محمد الملقبة ب (امزهرية)، فكانت إذا جلست في البيت في أوقات فراغها من القط، ترسم على التراب، وتخطط نماذج للقط بأصابع يدها. لم تستخدم أبو قحاص كما يقول عنها «الزهر» الفرشاة الحالية في أعمالها، بل كانت تستخدم ريشة من ذيل الغنم، ويؤكد أنها لم تكن ترسم على الورق أو ألواح الخشب إلاّ بعد أن زارها الباحث الفرنسي تيري موجيه، وطلب منها أن تقط على اللوح. عملت أبو قحاص القطّ العسيري في مجالس كثيرة، ابتدأتها ببيوت أبنائها وبيت ابنتها، وكانت تعمل القط في بيوت بعض أهل القرية. لم تكن وحيدة في العمل، فقد كانت تخطط «القطّ» بنفسها، وتستعين عليه بمجموعة من نساء القرية لإدخال الألوان كمساعدات، كما عكفت على تدريب كثير من بنات قرية «رجال». استخدمت البويات الحديثة في تكوين جدارياتها، إذ تختار أجود الأنواع منها، كما أنها تجيد خلط الألوان لتحصل على ألوان إضافية أخرى. من الأشياء المهمة في حياة الفنانة فاطمة أبو قحاص أنها كانت إذا بدأت في أي عمل لا تتوقف عنه إلاّ فترات قليلة، كما أن الأوقات المعتادة لعملها تبدأ من الصباح الباكر حتى أذان المغرب، إذ عرفت بأنها تنام مبكراً لتستأنف عملها في اليوم التالي مبكراً، ومن الأشياء التي كانت تميزها أنها لم تكن تتأخر عن مساعدة واستقبال الباحثين والباحثات في هذا المجال في منزلها. في كل أعمالها كانت أبو قحاص تبدأ بالتخطيط باللون الأسود، ولم تكن تقتنع بالتجديد وإدخال نماذج جديدة في لوحاتها الفنيّة. حين داهمها المرض جمعت كل مقتنياتها من فُرَش وأدوات وأهدتها لابنتها الوحيدة، ولابنة ابنها، ولابنة ابنتها، ومن تلك المقتنيات التي كانت تلبسها أثناء القطّ الثوب العسيري، والمنديل الأصفر، إضافة إلى بعض لوحاتها. كان لها صندوق خشبي خاص تحفظ فيه كل أدوات العمل، وقبل وفاتها كانت تسأل عن كل ما استجد في هذا الفن، وتتابع من علمتهم وتهدي لهنّ التعليمات والنصائح، وهذا ما تؤكده إحدى الفنانات البارزات اليوم في هذا الفنّ «زهرة فايع الألمعي» التي تقول إنها لم تكن تعير هذا الفن أي اهتمام، إلاّ بعد أن رافقت أبو قحاص في كثير من أعمالها، وتعلمت معها الكثير من المفردات اللونية، فأحبت هذا الفن، وأصبح عشقاً بالنسبة لها إلى درجة أنها أصبحت اليوم تقيم دورات مجانية في القطّ العسيري، جلها في مدارس البنات في المحافظة، وتضيف «زهرة» أنها تعلمت من أبو قحاص المثابرة والصبر على جهد العمل، لأنّ هذا الفن يحتاج إلى جهد وصبر، لكونه عملاً مضنياً وشاقاً.