ومما أعجبني من شعر صدر مؤخراً في ديوان، بعدما أصبحت معظم الإصدارات التي تظهر على شكل دواوين شعرية تخلو من الشعر(!) ديوان: نازحون بأجنحة النوارس، للشاعر العربي العراقي عبد الله سرمد الجميل.. وقدر صدر هذا العام 2017 عن دار سطور ببغداد، وأقرأ أول ما أقرأ فيه الإهداء: (إلى الذينَ نزحَت الابتسامةُ عن وجوهِهم، والروحُ عن أجسادِهم إلى مدينتي المَوْصِلِ الحدباءِ أمِّ الربيعينِ.. التي نزحَ حوتُ نبيِّها عن دجلتِها، وسيّدةُ الحضرِ عن حجارتِها، ومنارتُها عن قلعتِها). في الإهداء تمتزج الإنسانية بالوطنية، والنظرة التاريخية الشامخة بالنظرة الراهنة المنكسرة، والتأملات في مستقبل قد لا تكون النظرة إليه ممكنة أصلاً.. للأسف. والديوان هذا أستطيع أن أقول بأنه يُقرأ من إهدائه، فمعظم قصائده تدور في فلك الجراح التي تنزف من المهدى إليهم حتى فاض الشعرُ من النزيف نفسه ليعود إليه! وفي أولى قصائد الديوان (أنا المدينةُ) نقرأ: (منّي إليكِ ولا شيءٌ لأذكرَهُ في رحلةِ الصمتِ تاهَ الحرفُ وانتحرا أنا المدينةُ مُذْ فارقْتِها لبِسَتْ ثوبَ الغيابِ وصارَتْ أدمعي حجرا أرى القناديلَ في عينيَّ مُطفأةً أرى النوافذَ غيماً ينفُثُ الضجرا أرى الأزقّةَ لا عودٌ تُسَرُّ بهِ ولا سِلالُ ورودٍ تأسِرُ النظرا) وفي قصيدة (الألم) يتحدث ألماً على ألمٍ كأن الأمل بات ينحصر في الطموح إلى ألمٍ أقلّ ألماً؛ وتلك هي الحالُ في حالٍّ بها دون أدنى تهويل أو تهوين: (ألمٌ على ألمٍ وغيرُكَ يمرحُ فمتى ستبرَأُ يا عراقُ وتفرحُ ؟ ومتى تَمَلُّ الأرضُ طعمَ دمائِنا ؟ ومتى البعيدُ إلى القريبِ يلوِّحُ ؟ لا تسألوني في السياسةِ إنّني سِيِّانِ عندي سارقٌ ومرشَّحُ هيَ لعبةٌ كبرى ونحنُ ضحيةٌ وغداً تبينُ خيوطُها يا مسرحُ والآنَ أجلِسُ في الحديقةِ ناسياً كلَّ الخرابِ وقطّتي تتمسّحُ قلبي لهُ بابٌ كسدِّ بحيرةٍ عندَ النساءِ بقُبلتينِ سيُفتَحُ هيَ قبلةٌ أخرى ونبلغُ موتَنا والنبضُ أبلغُ في الغرامِ وأفصحُ كفّي كفُرشاةٍ تلوّنُ جبهتي وبمقلتي نافورةٌ تترنّحُ) وقد لا أكون بحاجة لنقل المزيد من هذا الديوان لإعطاء القارئ تأكيدات على قيمته الإبداعية وجماليته الفنية، بخاصة إذا عرفنا أن قصائد الديوان كلها (أكثر من سبعين قصيدة) مكتوبة في العام 2015 وما قبله، والمدهش أن الشاعر من مواليد الموصل عام 1993 أي أن هذه التي لا أتردد في تسميتها بالروائع كتبها وهو في مطلع العشرين من عمره! والأكثر إدهاشاً أن مطالعة ما أنجزه الشاعر في الشهور القليلة الماضية، بعد إصدار ديوانه، فيه من التطور ما يشي بأن الرهانَ على تفوّقه صدقاً مكسبٌ للشعر العربي الذي لن يخفت أبداً.. وقد استوقفتني قصائده الأخيرة التي لم تلحق الانضمام إلى الديوان، كلها، غير أن قصيدة (نثرية) من جديده المؤرخ في هذا الشهر (نوفمبر 2017) أعجبتني جداً بشكل يحتمّ عليّ نقلها: (ريشةُ الطائرِ التي تطوَّحَتْ في الهواءِ، واختارَتْني كي ألتقطَها، صارتْ طائرًا آخرَ، فبكَتْ وتوسَّلَتْ إليَّ بأنْ أُرجعَها إلى هيأتِها ريشة فقط، فقد ملَّتْ تَرحالَ الطيرِ في سجنِ الفضاءِ.. أنا لا ذنبَ لي، إنما يدي يدُ شاعرٍ، يدٌ كأنَّ كلَّ شيءٍ تَمَسُّهُ يطيرُ، فاعذريني أيّتُها الريشةُ، من قبلِكِ طارَ الأحبابُ والأصحابُ). عبد الله سرمد الجميل، يصرّح في صدر ديوانه (نازحون بأجنحة النوارس) واصفاً إياه بأنه (قصائد عمودية ونثرية) وهو شاعر شاب، غير أنه – برأيي – يعرف كيف يكون شاعراً كبيراً في دروب القصائد، سواء سلك منها طرقاتها العمودية المصقولة الوعرة أم مساربها النثرية الحساسة.. فهو شاعرٌ حقيقيٌّ وكفى.