جمعتني بمحمد القشعمي ظروف عمل في مكتبة الملك فهد الوطنية، انتسجت خلالها بيننا صداقة متينة أعتز بها، وأنا هنا في هذه العجالة لست بصدد سرد سيرة الرجل، أو فصل منها، لأنه يتعذر أن أكتب بإيجاز عنه، فالإيجاز يبخس هذا الرجل حقه، الإيجاز لا يكفي لجرد منجزاته، لذا سأكتفي بالحديث عن مشروعه الثقافي وبإيجاز أيضا. تعامل أبو يعرب مع الثقافة كونها رافعة ودعامة مهمة لبناء نهضة الوطن، فكانت هما وطنيا كرس له طاقته التي لا تعرف الكلل أو الملل، ووظف علاقاته الواسعة داخل الوطن وخارجه لخدمة هذا الهم منطلقا من إيمانه بأهمية الثقافة في بناء حاضر الوطن ومستقبله، وسعى بطاقته الجبارة لتفعيل القرارات المتعلقة بالثقافة كيلا تبقى مجرد حلم، أو مشاريع منسية على الورق. بهذا الاندفاع تفوق أبو يعرب ليصبح واحدا من الأوفياء المخلصين العاملين في حقل الثقافة دون ضجيج، نعم إنه من القلة المنكرين لذواتهم، إنه واحد ممن لا يجيدون التحدث عن ذواتهم، لتنوب منجزاتهم للتعريف بهم. إذا ذكر أبو يعرب يحضر نشاطه الثقافي البارز الذي استهله وهو في شرخ الشباب، منذ التحق بالعمل في وزارة العمل والشئون الاجتماعية ( رعاية الشباب، حيث كان مبادرا لتأسيس صروح الثقافة في عدة مناطق بالمملكة في الأحساءوحائل والقصيم. افتتح مكتب رعاية الشباب في الأحساء، وكلف بإدارته وكان ثمرة هذا الجهد تأسيس جمعية الثقافة والفنون، وبناء علاقة وطيدة مع النخبة المثقفة في الأحساء، بفضل ما امتلك من دماثة خلق وطيب معشر تحولت هذه المكاتب الرسمية لنواد ومقرات نشطة لمشاريع ثقافية طموحة. بعد الأحساء انتقل عمله إلى حائل، ليفتح مكتب رعاية الشباب، تجاوز طموحه افتتاح مكتب مؤثث بالبيروقراطية مهمته استقبال الخطابات والرد عليها، لينخرط في المجتمع كفرد فاعل نشط، أصبح عضوا لأول مجلس إدارة جمعية حائل الخيرية، كما حفز الهمم لإقامة معسكر للشباب خارج مدينة حائل، ونقل النشاط الثقافي والاجتماعي للخدمة العامة إلى مناطق خارج مدينة حائل. عاد بعد ذلك إلى الرئاسة العامة لرعاية الشباب بالرياض، لتسند إليه رئاسة القسم الأدبي للشئون الثقافية، حيث بادر لإصدار سلسلة هذه بلادنا التعريفية، وكلف بعضوية الأمانة العامة لجائزة الدولة التقديرية للأدب وسكرتارية اللجنة العليا واللجنة الثقافية حتى تقاعده. تقاعد فالتحق بالعمل في مكتبة الملك فهد الوطنية، مثله لا يتقاعد، فعلا بدأ مرحلة من الكدح والعطاء لا تقل ثراء، ولا أهمية مما قدم. اهتم بتسجيل التاريخ غير المكتوب، بدأ برنامجا طموحا بالبحث عن أولئك الذين كانت لهم بصمات بارزة على الحياة الثقافية في مناطق المملكة، خدمته في هذا المسعى علاقاته الواسعة وسعة اطلاعه. في هذه المرحلة من نشاطة احترف الكتابة. الجدير بالذكر أن علاقته بالكتاب بدأت مبكرا، وهو تلميذ في السنة الرابعة الابتدائية، كما أشار في نبذة موجزة عن حياته، إلا أنها اقتصرت على القراءة والاقتناء، أما علاقته بالكتاب مؤلفا ومعدا، أعني بالقلم بدأت متأخرة جدا، بدأت بعد أن تخطى عتبة الخمسين، قبل ما يقارب عشرين عاما، وسرعان ما توطدت علاقته بالقلم، ودخل في سباق مرثوني لاهث مع الزمن، كأنما أفاق متأخرا، وقد تفجر فجأة بين يديه ما يختزنه في ذاكرته الفذة، تدفق سيل عرم من المعلومات والوقائع المهمة. ما يعرفه أبو يعرب كثير ومهم، وما ينقصه يجده تحت متناوله، لقد أعانه وجوده في المكتبة في توثيق معلومات، يعرف أين يجد ضالته. ينقب عنها يستخرجها وينفض الغبار عنها ويقدمها للباحث عنها، إن ما أنتجه خلال العشرين عاما هو أرشفة دقيقة للعمرفة. وكما اهتم بحاضر الثقافة ومستقبلها اهتم أيضا بالتاريخ الثقافي فمؤلفاته شديدة الصلة لمجريات الثقافة في مرحلة التأسيس. اهتم بالرواد والأوائل ممن أسهموا في البناء. تتبع رواد الصحافة فهو أفضل من أرخ للصحافة. تراه في المكتبة يقلب صفحات جرائد صفراء ذابلة مغبرة وأحيانا حروفها مطموسة باحثا في غضونها الهش عن الشوارد من المعلومات القيمة، تراه منتشيا بلذة يستعرض ما عثر عليه كمعلومة باهتة منسية، قد لا نشعر بما يشعر به هو من النشوة التي تكاد تكون شاذة في زمن تدفق المعلومات الحية، لأننا لا نفطن لقيمة ما عثر عليه حتى نراه منضدا في كتاب يخدم به الباحثين والدارسين. كم قدم من مصنافات عديدة تقارب الثلاثين مؤلفا تهم الدارسين ترقي بفضل دقته وحرصه لتكون مصادر أوليه، لا مراجع فقط. من يشهد مكتبه وقد نهضت فوقه تلال من الأوراق والقصاصات من المعلومات التي عثر عليها مبعثرة في فوضى عارمة تستغرب كيف سيعثر عليها ثانية في هذه الفوضى المرعية، ويفاجؤك إذ يعثر على ما يريد بسرعته المعهودة، لا تضل يده وكأن نببت في أصابع مجاسات استشعار. ومما يدهش في هذا الرجل الخارق أنه رغم مشاغله هذه وركضه اللاهث يبقى لدي ه متسع للاتصال بالأصدقاء للسؤال عن أحوالهم والاطمئنان عليهم، وحتى زيارتهم، لا تفوته فعالية ثقافية ولا اجتماعية لدرجة أنك تراه حاضرا مكانين في وقت واحد. التقيته أول مرة عند عبد العزيز مشري وقد حل مشري ضيفا على مهرجان الجنادرية، ولم يخطر ببالي أن تنشب بيننا صداقة وطيدة أعتز بها، لا أبالغ إذا وصفتها بأنها أقوى من أخوة، زرته في مرضه الأخير مرتين، المرة الأولى برفقة السيد عدنان العوامي والسيد شبر القصاب كان واهنا يتحدث لاهثا بسرعة كعادته وقفت حزينا بجوار سريره أسمع لرئته حفيفا وهي تستمد الأكسجين من كمامة، شعرت أنه حفيف حشرجة، قلقت ألا تصمد تلك الرئة، لم أتعود أن أره منهكا واهنا، لم يخطر بيالي قط أن تستنفد تلك الطاقة الجبارة وتوهن تلك الروح والوثابة، لا يلوذ بالفراش إلا من إعياء شديد كيف لا ينهض ويستقبلنا بقلبه العامر بالحب. منعناه أن يجهد رئته بالهمس الواهن. أوشكت وأنا أودعه أن أحمله رسائل إلى الراحلين الجميلين عبد العزيز مشري وصالح عزاز وأبي سهيل وصالح الأشقر وعبد الرحمن الوابلي، أشار إلى ابنه أن يوزع علينا آخر مؤلفاته، وزرته بعد شهرين برفقتي أسرتي فكلنا نتشاطر حبه، فرح بنا وضع باقة الورد جانبا على سريره قائلا: أنتم الورد. وفرحنا به هذه المرة كان قادرا أن يستوي في سريره ويتحدث بوتيرة صوته السريعة طمأننا أنه قريبا سيخرج إلى البيت، قضى أكثر من ثمانين يوما في المستشفى، كيف يقيد القشعمي بقضبان سرير!! وأن يجبر على المكوث في مكان ثمانين يوما!! قبل أن نوعده أمرني باقتضاب مشيرا إلى كيس تحت سريره: خذ لك نسخة. كانت الطبعة الرابعة لمصنفه عبد الرحمن منيف في عيون مواطنيه. ودعته سعيدا مطمئنا أنه عاد قمرا متألقا كالعرجون القديم. مثل هذا الإنسان يجب أن يبقى، أن يواصل العطاء ليبهج القلوب.