كانت مرحلة التقاعد مرحلة جديدة في حياة ضيفنا فهو من بعدها استهل ليقاته الكتابية واستأنف مشوار الكتابة الإبداعية والنشر إنه الأديب عمرو العامري صدرت له ثمانية كتب في القصة القصيرة والرواية والسيرة الذاتية، والنصوص الحرة، ويكتب المقالة وله عمود أسبوعي في ملحقكم المجلة الثقافية، وينظر العامري إلى أن الكتابة ليست وسيلة متعة أو تسلية أو بحثاً عن الشهرة؛ وإنما محاولة لتقديم رؤية صادقة نابعة من ذاته. نشر العامري أول أعماله القصصية (طائر الليل) عام 1989م بعدها توقف عن النشر لظروف عمله (ضابط بحري)، وعاد للنشر عام 2007م بمجموعته القصصية (رغبات مؤجلة)، وفي عام 2010م نشر سيرة ذاتية بعنوان (ليس للأدميرال من يكاتبه - مذكرات ضابط سعودي) ولقيت هذه الأخيرة شهرة عالية لما اتسمت به من صدق وشفافية، كما كانت له بعض التجارب النصية كما في (مزاد على الذكرى) الذي نشر في عام 2013م، و(جيرة الوحشة) 2016م، أما الرواية فقد كان لها حضور في أدبه إذْ نشر روايته الأولى (تذاكر العودة) في عام 2014م، وكان آخر إنتاجه رواية (جنوبجدة شرق الموسم) 2017م. كما اتجه العامري إلى الأسطورة، حيث نشر من أساطير القرى (مرويات تهامية) قصص في عام 2015م؛ إيماناً منه بوجوب المحافظة على التراث الذي تزخر به منطقة جازان. وفي هذا الحوار نقف مع ضيفنا وضيفكم عمرو العامري نبحث عن دوافع الكتابة لديه، وعلاقته ببيئته، وتأثير عمله في رحلته الكتابية، والمؤثرات الأولى في تجربته، وأشياء أخرى ستجدونها في طيات هذا الحوار: * ما تأثير البيئة التي نشأت فيها، وما دور أسرتك في رحلتك الأدبية؟ - أنا ابن القرية، ابن الطين والأرض والفضاءات المفتوحة، وككل أبناء جيلي «بنين وبنات» ولدنا في منازل لا أبواب لها وفي دور لا جدران لها وكانت الحياة كتابنا الكبير. بالطبع كنا كلنا ننتمي لنمط متشابه من الحياة.. عوالم الزراعة والرعي ودفء العائلة. هذه الأرض سكنتنا تماماً وعندما ابتعدنا عنها ذات يوم كانت قد ترسبت داخلنا أو داخلي أنا، وبقيت حتى وأنا على الماء أكتب عن الأرض والغيم والشجر وعن حياة البسطاء. ونحن نتشكل في طفولتنا وكل ما يحدث بعد ذلك يأتي تأثيره بطيئاً ومتأخراً. هذه البيئة (المكان) سكنني تماماً وظل ملاذي حتى في مناماتي الليلية. أعتقد أن السؤال بحاجة إلى إجابة أوسع لكني أتوقف هنا، لكني وسأدعي أيضاً أني من الجيل المحظوظ جداً الذي أدرك الحياة وهي صحيحة وصحية، وأدرك النساء والرجال يعملون معاً.. يحصدون معاً ويرعون معاً وحتى يتشاطرون الرقص أحياناً معاً، وهذا ما شكل داخلنا نمط التوازن الروحي والعاطفي تجاه الأنثى وجعل جيلي يرى الحياة تسير على قدمين قبل أن تغتال يد قاسية إحداها ويغدو المجتمع أعرجاً ومسكوناً بالتشوهات. بقي ماذا عن دور أسرتي في رحلتي الأدبية؟ ولا أظن أبداً أن لها دورًا يذكر و هي أسرة بسيطة جداً تخلو من رفاهية الكتب والشعراء ولا مكان لمثل هذا الترف في ذلك الزمن. * من الذي له الدور البارز في إخراج موهبتك إلى حيز الوجود؟ - لا أظن أن لأحد دوراً في ذلك أيضاً، ربما بعض مدرسي المرحلة المتوسطة الأفاضل الذين كانوا يمنحوني العلامة الكاملة في مادة التعبير، وأحياناً يعالجون لي بصبر بعض محاولات الشعر، والكل كان يحاول أن يكون شاعراً ولا مجال إلا للشعر. وإذا كان لي أن أذكر أسماء من باب العرفان بالجميل، فسأذكر الأستاذ الكبير حجاب الحازمي والذي أهداني أول روايتين في حياتي هما «دعاء الكروان» لطه حسين، وكتاب لتوفيق الحكيم ربما هو «يوميات نائب في الأرياف»، كما أني أطلب الرحمة والغفران للأستاذ الشاعر على أحمد النعمي والذي كان يحاول أن يصلح لي بعض محاولاتي الشعرية قبل أن ينكسر صوت الشعر داخلي مفسحاً المجال للبوح والحكايات. وربما كان الدور الأكبر لدفعي للكتابة كانت شرارة القلب الأولى والضربات المتتالية على الرأس. * بوادر الكتابة لديك متى بدأت؟ - أتذكر أنه في الصف الأول المتوسط بدأت بمحاولات شعرية أتبادلها مع أصدقاء، بعضها كان تقليداً وبعضها محاولات للبوح. وكانت حصص التعبير أيضاً مجالاً لمحاولة كتابة ما هو مختلف، أدب الرسائل أيضاً والذي كان شائعاً ولدي محاولات للكتابة؛ وبالطبع كنت أتراسل مع أصدقاء ومع غائبين بعيدين في المدن البعيدة من أجل العيش ثم بدأت محاولة كتابة القصة ولهذا أيضاً قصة. * حدثنا عن تجربتك الكتابية؟ - هذا السؤال يحتاج إلى حديث طويل وإلى توضيح أيضاً، ما أقوله هو أني دخلت المجال العسكري بعد الثانوية العامة وسافرت خارج المملكة في بعثة دراسية وكل هذه الأشياء تتقاطع مع الكتابة الأدبية، لكن قسوة هذه الحياة (العسكرية والغربة) جعلتني أهرب للقراءة وبالطبع من يقرأ كثيراً سيجد نفسه يجرب الكتابة ليس من أجل مجد أدبي ولكن للبوح والاحتماء من قسوة الحياة والخيبات وإحلال عالم بديل متخيل بديلاً عن العالم الواقعي القاسي. باختصار تجربتي الكتابية كانت وما زالت لي أنا في المقام الأول ومن أجل أن لا تتعفن الكلمات داخلي أو أنفجر؛ وهذه ليست مبالغة. * للنص الأول المكتوب أو المنشور تأثير على الكاتب، فمتى كان ذلك؟ - من الصعب تحديد أول نص كتبته ربما أتذكر أول نص نشر لي وكان بالطبع في باب مشاركات القراء في مجلة إقرأ، وربما أول قصة نشرت وكانت في جريدة عكاظ وهكذا، الكتابة عمل تراكمي ينمو ولا توجد له بدايات قطعية. * المحاولات الأولى لا ترى النور غالباً عند أغلب الكتّاب، فهل مررت بهذه التجربة؟ - أظن الإجابة السابقة تكفي.. ولكن ما أود أن أقوله هنا هو أن المحاولات الكتابية التي كنت أرسلها للجرائد والمجلات كانت تنشر وبالطبع؛ ما من مساحة أخرى لنا سوى صفحات الجرائد رغم أن كل ذلك كان يتم بالرسائل ويستغرق أسابيع عدة وأحياناً تضيع هذه المراسيل. * أين يجد العامري نفسه في الكتابة الشعرية أم القصصية والروائية؟ - لا أنا لست شاعراً ربما أمتلك مفردات شعرية، وربما أكتب نصوصاً قد يكون فيها روح الشعر أو يرى البعض فيها (نفس الشعر ومفردات وقلق الشعر)، وعموماً مفردة «نص» قد تمنحنا المساحة للمناورة بين اللغة الشاعرية والنص المفتوح دون الوقوع في فخ التصنيف ربما أصنف ككاتب قصة ورواية، وأجد نفسي هنا، لأن المساحات للبوح متاحة ودون قيود، غير أني سأظل أدعي أني في نطاق التجريب. تجريب الكتابة في السيرة والقصة والرواية والأسطورة والنص الشعري. * ما موقف النقاد من تجربتك الكتابية، وما رأيك في ذلك؟ - ليست جيدة أبداً. وربما السبب هو أني أكتب وأنا متحرر من سطوتهم، ولا أهتم بما يقولون إلا بما قد يفيدني في تجربتي الكتابية. ثم إن النقاد غالباً ما يأتون وهم على موقف مسبق من تجربتك وحتى قبل قراءتها. وأتذكر مثلاً أن أحدهم قال إنه لم يتسن له قراءة رواية عمرو العامري جنوبجدة شرق الموسم لكنه يظن أنها سيرة ذاتية.. هكذا، وعلى كل أنا أكتب لنفسي وللكتابة وللأصدقاء، أكتب لأتحرر، ولا أطمح إلى ما هو أبعد من ذلك ومتحرراً من كل شيء وأتمنى أن لا يقال أن هذا غرور. * من خلال عملك كضابط بحري ما الذي أضافه لكتاباتك؟ - ربما الأسفار الكثيرة والعديدة ومخالطات بيئات وثقافات مختلفة أثّرت في تجربتي الحياتية والتي بالطبع أثرت على رؤيتي للعالم والحياة وربما الكتابة. أيضاً بقائي لأيام طويلة على صفحة الماء منحني الوقت للقراءة والعزلة. وأنا مدين لأيام البحر الطويلة والمملة بقراءات كتب كثيرة، كتب ربما لم أكن لأجد الوقت لقراءاتها في اليابسة لكن في البحر وحدها كانت خير الرفقة. * ما هي الكتب التي كان لها أثر في صقل موهبتك؟ - أنا مدين للتراجم العالمية بالمجمل وربما ليس كتباً ولكن كتّاباً تأثرت بهم كثيراً، ففي مرحلة قراءاتي المبكرة كان محمد عبدالحليم عبدالله الكاتب الأقرب لي؛ لأنه كان يكتب عن القرى والغيطان والحب المعوق.. وأتذكر أني قرأت روايته بعد الغروب أكثر من عشر مرات. ثم تأثرت في مرحلة ما بغادة السمان وعبدالله الجفري قبل أن أكتشف كنز التراجم العالمية، الروايات الروسية تحديداً ثم كتاب أمريكاالجنوبية ماركيز وإيزابيل اللندي وأستورياس وجورج أمادو وغيرهم. التراجم العالمية وحدها هي من منحني المفردة التي أظن أني أتفرد بها ومرة أخرى أتمنى أن لا يحسب هذا غروراً. * (طائر الليل) نشرت عام 1989م و(رغبات مؤجلة) نشرت عام 2007م ، هل هذه الفترة الطويلة هي توقف عن الكتابة أم توقف عن النشر؟ وما الأسباب التي أدت إلى هذا التوقف؟ - لا كان توقفاً عن النشر، وربما لا يعرف البعض أن هناك محاذير على الكتابة والنشر على منتسبي القطاع العسكري الجيش تحديدًا، لكني كنت أتمرد على هذا وأكتب وقد ضاع الكثير مما كتبت وأتلفت الكثير لأني لم أكن سوى هاو. وحتى (رغبات مؤجلة) جمعها وأصدرها صديق دون أن أعرف إلا في اللحظات الأخيرة.. غير أني بعد أن تقاعدت مبكراً عدت للكتابة وكتبت ما كتبت, وأتلفت الكثير أيضاً. * ما الكتب التي ترجمت لعمرو العامري؟ - ما من كتب ولكني دفعت أخيراً بسيرتي الذاتية «ليس للأدميرال من يكاتبه» إلى أحد دور النشر ولا أعرف مدى نجاح التجربة وأظن أن ذلك يتوقف على نوعية الترجمة وعلى عملية التسويق أيضاً للكتاب، وأنا «متشائل» وسنرى. * لم يهتم عمرو العامري بالأسطورة والكتابة عنها؟ - أعتقد أن منطقتنا والتي شهدت تقاطع حضارات عدة وطرق قوافل وصدام أديان تختزن الكثير الكثير من الأساطير سواء على المستوى «الشفاهي» أو على مستوى المعالم والأمكنة والشواهد. المفجع أن هذه الذاكرة تموت والمعالم تمحى واللغة المحلية تموت وغداً تنسى ذاكرة عوالم جميلة كانت هنا ذات يوم. هذا الموضوع حقاً يؤرقني ويشغلني ربما لأني أنحاز جداً لهذه الأرض وأتمنى أن تأخذ الكتابة عن الأسطورة والحكايات الشعبية حيزاً أوسع لدى الباحثين وفي أروقة الجامعات. وقد جمعت القليل من بعض الحكايات كعربون وفاء, أصدرته تحت عنوان «من أساطير القرى», أتمنى من الكثيرين أن ينحازوا لهذا الجانب الغني والغني جداً والذي ما زال بكراً على الباحثين. * أخيراً ما الجديد لديك أدبياً تخبرنا عنه؟ - لدي مشروع رواية ولدي أفكار عن مشروعات كتب في الشأن الإستراتيجي لكن هذه الكتب بحاجة إلى دعم مؤسساتي وعمرو العامري يغرد وحيداً على الدوام. لهذا سأظل في مجال الرواية إن استطعت.