لا أظنُّ أنَّ قضيةً ثقافيةً أُشبعتْ كلاما، وسُطِّرتْ في أهميتها المؤلفات، وصيغتْ في وجوب العناية بها المقالات، مثل قضية القراءة، هذا الفعل الثقافي العجيب الذي لا يختلف فيه اثنان على ضرورته، فهو العلامة الفارقة التي تميز المثقَّف عن غيره، وهو الكلمة الفصل بين العقل العلمي المفكِّر المتجدد، والعقل الذي عشعش الظلام فيه، وأقام الجهل في جنباته، فهو جامدٌ لا يمكن أن يجد التطور إليه سبيلا. غير أنَّ المتأمل في واقع القراءة بين أوساط المجتمع، يلحظ أنَّ كثيراً منهم يعاني من مشكلاتٍ في التعامل مع هذا الفعل الثقافي، وأنَّ لديهم نوعاً من اللبس في ممارسته، ولعل أهم تلك الإشكاليات وأكبرها ذلك الغموض في فهم الغاية منه، فلماذا القراءة؟ وما الهدف منها؟ وكيف أضحتْ بهذه الأهمية؟ وما ملامح ضرورتها؟ وهل كل ما يُكتب صالحٌ للقراءة؟ وكيف يمكن استثمار المقروء؟ وهل يكفي أن تكون قارئا؟ وماذا بعد القراءة؟ وتستمر التساؤلات في هذا الشأن: ماذا يتوقَّع المجتمع من القارئ؟ وكيف يمكن أن يكون مختلفاً عن غيره؟ وما هي الفوارق التي يمكن ملاحظتها في ممارِس هذا الفعل الثقافي؟ وما هي الانعكاسات الثقافية المتوقعة على الإنسان القارئ؟ وما أبرز الملامح التي يظهر فيها تأثير الثقافة القرائية؟ أعتقد أنَّ هذه التساؤلات وغيرها تُظهِر ما لهذه القضية الثقافية من إشكالياتٍ ومشكلات، وتكشف عن تشعُّب المسارات المتصلة بها، وتؤكد أنَّ المسألة ليست بالسهولة التي يتصورها الكثيرون، وأنها تتجاوز مجرَّد أن تفتح كتاباً وتقرأ، أو أن تُصوِّر غلافاً بجانب فنجان القهوة ليعرف الناس أنك تقرأ، إلى أمورٍ أشدَّ أهميةً وأكثرَ عُمقا. إنَّ كثيراً من الطامحين إلى الثقافة، المتطلعين إلى ممارسة القراءة، غيرُ مدركين لعمق هذه القضية، ولا مستوعبين لأبعادها، ولهذا فإنَّ الناظر في حالهم معها سيجدهم على نوعين؛ الأول: مُدَّعي القراءة، ذلك الذي تجده يسعى بكلِّ الطرق إلى إثبات أنه قارئٌ من طرازٍ رفيع، ويحاول في كلِّ مناسبةٍ أن يؤكد للمجتمع أنه (دودة) كتب، ويعمد إلى إيهام الناس بأنه مطلعٌ على كلِّ جديد، وأنه لا يمكن أن يصدر كتاباً دون أن يطَّلع عليه، ومن الطرق التي يظنها تؤدي إلى انطلاء هذه الحيل على المجتمع: الحرصُ على تصوير أغلفة الكتب، أو صفحات منها، أو تصوير نفسه في المكتبة أو في معارض الكتب بشكل دوري، وغير ذلك من الطرق التي يسعى من خلالها إلى إيهام نفسه قبل المجتمع بأنه قارئٌ نهم، ومثقفٌ مطلع، وموسوعيٌّ فريد. وهذا النوع ينبغي أن يُشفِق على نفسه، وأن يحرص على استثمار وقته فيما يفيد، لأنه لا يعلم أنَّ جزءاً كبيراً من حبِّ القراءة والثقافة والاطلاع فطرةٌ ربانيةٌ يبدو أنه لم يُؤتَها، ثم إنَّ مثل هذه الحيل حبلها قصير، لا يمكن أن تنطلي على المجتمع، خاصَّةً مع تطور وسائل التواصل والتقنية، بل إنَّ مقابلةً واحدةً وحواراً قصيراً مع أحدهم تكشف لك عن حجم اطلاعه ومستوى ثقافته. أما النوع الثاني فهو الذي ينبغي أن يتنبَّه لإشكاليات القراءة ومشكلاتها؛ لأنَّ هذا النوع يقرأ، وجادٌّ في ممارسة هذا الفعل الثقافي، لكنه لا يملك رؤيةً واضحةً عن الأبعاد والغايات، ولا يعرف ماذا يقرأ ولماذا يقرأ وكيف يقرأ، وعلى المؤسسات الثقافية الاعتناء بهذا النوع وتوعيته، كما أنَّ على المثقفين الأخذ بأيدي هؤلاء، وتوجيههم بصورةٍ جيدةٍ ومستمرة، حتى يمكنهم الإفادة من قراءاتهم، واستثمار ما قضوا أوقاتهم في ممارسته. غير أنَّ أهم ما يجب أن يعرفه هذا النوع من القُرَّاء -في نظري- أنَّ القراءة دون هدفٍ مضيعةٌ للوقت، واستنزافٌ للجهود دون طائل، وأنه ينبغي للقارئ أن يعي تماماً أنَّ القراءة لمجرَّد القراءة، أو حتى يوصف بأنه قارئ، أو لكي يظهر بمظهر العارف المطلع على الكتاب حين يُتحدَّث عنه، كلُّ هذه الأهداف لن تفيد شيئا، ولن تُحقِّق له غايةً حقيقيةً نافعةً من هذه الممارسة، ولهذا فإنَّ رسم الأهداف، واختيار المقروء، وتحديد الغايات بوضوح، واستيعاب الأسباب الداعية للقراءة، والقدرة على استثمار المعرفة.. هذه هي البوصلات الدقيقة التي تؤدي إلى انتفاع القارئ بالإنتاج المعرفي الذي يستهلكه، والوعي بها وإدراك حقيقتها هو الموصل إلى الإفادة من هذا الفعل الثقافي المهم بصورةٍ فاعلة. إنَّ على القارئ ألا يكتفي بالقراءة، بمعنى أن يتوقَّف عند المرحلة التي يُعبِّئ فيها رأسه من المعلومات والمعارف، بل لا بُدَّ أن يتجاوز ذلك إلى مرحلة الإنتاج، هذه المرحلة المهمة التي يجب أن يصل إليها القارئ حتى يحقق المنفعة الكبرى من ممارساته القرائية، وهذا الإنتاج هو الاستثمار الأمثل للقراءة، وهو الذي يجعل القارئ فاعلاً في المجتمع، كما أنه من أهم الملامح التي تميز القارئ الحقيقي عن غ يره، ولعلَّ مقالاً آخر في هذا الموضوع يكشف عن مفهوم هذا الإنتاج ومساراته، وكيف يمكن للقارئ أن يمارسه بوصفه علامةً فارقةً ونتيجةً مفصليةً في ممارسة الفعل القرائي.