أشرتُ في الحلقة السابقة إلى السياق الثقافي العام بصفته أحد العوامل المهمّة في اتساع دائرة الضعف (الفكري والجمالي) في المدوّنة الروائية السعودية، وسأتناول في هذه الحلقة عاملاً لا يقلّ أهمية عنه، ألا وهو السياق الثقافي الخاص، الذي يحدّد ملامح التكوين الفكري والثقافي والمعرفي للروائي نفسه. ويمكن أن نتمثّله هنا في مصدرين رئيسين: الأول: تجربة الروائي في الحياة، وطبيعة الظروف التي تقلّب فيها، وجملة الرؤى والأفكار التي أفضى إليها من هذه التجربة؛ لتكون – عملياً – بمثابة الفاعل الأبرز في مواقفه واختياراته الفكرية والعاطفية. ويتجلى هذا المصدر المهمّ في الذاكرة السردية بأنماطها المختلفة، وأهمها الذاكرة الإجرائية والحدثية والإدراكية؛ إذ إنّ الغالب في مادة هذه الذواكر ما يكتسبه الإنسان (الروائي – الراوي) في حياته الخاصة من عادات وحركات وأفعال آلية، وما تسجّله ذاكرته من أحداث وأزمنة وأمكنة عايشها شخصياً، وما تلمّ به من تفاصيل متنوّعة كالصور والأصوات والألوان والروائح والملموسات (انظر: جمال شحيد: الذاكرة في الرواية العربية المعاصرة، ص44). إنّ كثيراً من التجارب الروائية تكشف أول ما تكشف عن محدودية تجربة أصحابها، إما لحداثة السنّ، وإما لضعف التجربة (رغم طولها) بسبب خلوّها من الصدمات أو المنعطفات القادرة على توليد الأسئلة حول الذات والآخر والكون والحياة؛ لذلك تبدو الذاكرة في كثير من هذه الروايات سطحية (لا تتجاوز عرض الصور)، أو جاهزة (غير قادرة على اختراق الأحداث العادية المكرورة وتفاصيلها أو نهاياتها المألوفة) ! والثاني: المصادر الثقافية، وتشمل: - أولاً : المصادر العالِمة، التي تكوّنت على أساس علمي وفني، كخطاب الرحلة، والأدب الجغرافي، والخطاب التاريخي؛ إذ إنّ الأصل في جميع هذه الخطابات تأسّسها على منظور واقعي (انظر: سعيد يقطين: الرواية والتراث السردي، ص206). ويمكن أن ندرج تحت هذه المجموعة العلوم الإنسانية التي يُصار إليها عند الرغبة في تحليل كلّ ماله علاقة بوجود الإنسان ونشاطه، حيث تعمد التجربة الروائية الواعية في هذا السياق إلى استثمار المدوّنات الدينية والفلسفية والإبداعية بقصد معالجة أو فهم تداعيات حدث مفصلي تعرّضت له إحدى شخصيات الرواية . - وثانياً : المصادر الشعبية، التي تتأسّس «على قاعدة تمثيل الواقع من وجهةٍ غير واقعية» (السابق، ص206)، كجملة النصوص الشعبية والسير التي عرفها تراثنا العربي في أزمنته البعيدة . ويمكن أن نتمثّل هذه المصادر الثقافية في كلّ تجربة روائية من خلال التفاعل النصي، الذي يحدّد المساحة التي يشغلها تفاعل النصّ الروائي مع نصوص فكرية وأدبية مختلفة، أو من خلال الذاكرة الدلالية، التي تشفّ عن مقروء الإنسان ومحفوظاته؛ وهي ذاكرة طويلة المدى، قادرة على تنظيم المخزون الذاكري الذي تفضي به الأنماط الأخرى من الذاكرة (انظر: جمال شحيد، سابق، ص45) . ومن المهمّ أن أشير هنا إلى أنّ تنوّع المصادر الثقافية يسهم في تعويض النقص الحاصل في التجربة الحياتية؛ لذلك لا نجد في بعض التجارب المتميزة إلا القدرة الفائقة على تحليل المألوف بطريقة غير مألوفة، من خلال استثمار المقروء الديني والتاريخي والفلسفي والنفسي والاجتماعي . إنّ استهانة كثير من الروائيين والروائيات بأهمية التكوين الفكري والثقافي والمعرفي في إثراء التجربة الروائية جعلنا أمام تجارب روائية لا ترى في الكتابة الروائية إلا حكاية طويلة؛ لذلك بدت هذه التجارب عاجزة عن تحقيق شرط الرواية كما يراه هيرمان بروخ (Herman Broch) وهو «اكتشاف جزء من هذا الوجود ما يزال مجهولاً» ! (وللمقالة بقية) .