يجد خطاب الحداثة تعبيراته العربية ضمن سياقات تاريخية واجتماعية مختلفة. لكن هذا الخطاب لم يفلح حقاً في الإسهام في توسيع عملية التغيير الاجتماعي منذ أن حطّ في التربة العربية، وأخذ يتأقلم ليغوص في خطاب الهوية وأسئلته منفصلاً عن مرتكزات بنيته الاجتماعية والإنسانية. في سياق البحث عن أصول أو مرجعيات خطاب الحداثة في الأدب صدر"خطاب الحداثة في الأدب"دار الفكر، 2005 لكل من جمال شحيد ووليد قصاب، بحثاً في مدى تغلغل مفاهيم الحداثة ومرتكزاتها في الأدب. يتناول جمال شحيد مرجعية الأدب الحداثي، مقتفياً فيه تأثير الحداثة، وآفاق الحداثة الأوروبية، وروادها في المشرق العربي، وأثرها في النهضة العربية عبر الانتقال من مقولة الأمة الإسلامية إلى مقولة الأمة العربية، ونزوع العقل العربي إلى العقلانية والحرية والعلمانية. ثم يفتش عن تجليات الحداثة في الأدب، شعراً ورواية ومسرحاً وفي اللغة، ليتوقف عند ما بعد الحداثة أو الحداثة البعدية. أما وليد قصاب فقدم بحثاً تحت عنوان"الأصول الفكرية لخطاب الحداثة في الشعر العربي"، يتناول فيه مفهوم الحداثة ودلالة المصطلح اللغوي لها ومصادرها، واختلاف التوجهات الفكرية للحداثيين، ثم يضع صفات للحداثة في التنظير النقدي، ليجدها عقيدة فكرية وعلمانية وبلا معايير، تهدم كل ما سلف. أما في الشعر فيجدها إلحاداً واستهتاراً بالأديان، وتنهض على العبثية، وتشوه الرموز الإسلامية، وتجنح نحو الغرابة، وبالتالي فالحداثة التي يطلبها هي حداثة غائبة. ويمكن القول ان خطاب الحداثة تأقلم في واقع البلاد العربية في شكل خطاب نهضوي، جسدته نهضة واعدة تتمركز حول الإنسان، ويعنيها كل ما يتقاطع مع الهمّ الإنساني، من تحرر وعدالة وديموقراطية... ولم يكن في تجلياته الأدبية خطاباً نخبوياً، يقتصر أو ينحصر في السياق الأدبي فقط"إذ كان السياق الأدبي بمثابة الوسيط الجمالي إلى واقع مأزوم وعالم منهار. وعليه لم يقفز خطاب الحداثة فوق الواقع، مع أنه سلك أحياناً سلوك القافز فوقه، وأحياناً أخرى تبدت واقعيته الصريحة من خلال اشتغاله مع الحراك الإيديولوجي، لكن إغراقه في وحل الإيديولوجيا ودعواها جعله ينحسر ويتراجع، بصفته معطى جمالياً، بانحسار تمثيل القوى المجتمعية وتراجعها عن القيام بدورها التاريخي المنوط بها. وفي سياق تحليل مرجعية الحداثة والأدب الحداثي، يدرس جمال شحيد المصطلح من زاوية التأصيل، ثم يتعرض لبداية استخدامه ومقارنته مع المدارس الأوروبية، وكيفية تطور الحداثة خلال القرنين الماضيين، وينتقل إلى تجليات الحداثة في الأدب العربي، حيث بدأت شعرياً، وتكللت في الرواية، معتبراً أن الرواية العمود الفقري للحداثة. غير أن من الصعب حصر مفهوم الحداثة في حيّز معين، فهو من المفاهيم غير المقيدة. ارتبط بالتاريخ، فكان سيرورة تاريخية، تجاوز حراكها تيارات تاريخية تقليدية، واستند إلى اطروحات فلسفية وأفكار متجاوزة وثورات علمية وصناعية. تغلغلت الحداثة إلى المجال العربي عبر مظاهر عدة، وتجسدت في الأدب بانطلاق نمط شعري عربي جديد، تأسس على رؤية مختلفة للتعبير الشعري، ومغايرة لتلك الرؤية التي ورثتها الذائقة الجمالية بواسطة القصيدة الكلاسيكية، ثم ترسخت في سياق أدبي احتلت فيه الرواية حيزاً مهماً. واليوم تفيض مملكة الشعر عن محمود درويش وأدونيس ونزار قباني وسواهم، ويتسع فضاء الرواية ليتعدى عبدالرحمن منيف وجبرا ابراهيم جبرا وحنا مينه إلى روائيين كثر، يصعب حصرهم. كما أن الموسيقى تجاوزت الأخوين رحباني إلى زياد الرحباني ونوري اسكندر وقدري دلال ومنير بشير وسواهم. وفي السينما والفن والإعلام والفكر كثير من الأسماء لها بصمات مميزة. ولكن لم يتمكن خطاب الحداثة الشعرية في البلاد العربية من اجتراح مفاهيم نقدية أو جمالية يمكنها أن تشكل مرتكزات أساسية لتشكيل خطاب شعري متكامل، ومفتوح على التجربة على رغم محاولات عدة صبت في جهة بلورة مفاهيم تخص القيم الفنية والفكرية للحداثة في تجلياتها وأشكالها وتجاربها المختلفة والمتعددة. إذاً، للحداثة تاريخ في ثقافتنا وفكرنا. لكن مع ذلك، فإن سؤال الحداثة ما زال مطروحاً في بلداننا العربية، والأسباب عدة في هذا المجال. فالحداثة لم تشمل مختلف الميادين والقطاعات الاجتماعية والثقافية، وظل عدد من أبناء جلدتنا يمتلك تصورات مشوشة ومغلوطة عن الحداثة. وفي هذا السياق يرى وليد قصاب في الحداثة"حملة إلحادية"، كونه يعتبر العلمانية معادلاً للإلحاد، ويذكر الحداثيين العرب"بأنهم ينتمون إلى أمة أخرى، وإلى حضارة أخرى"، كما أنهم"أكثر جرأة وتطرفاً في مهاجمة الأديان وتسفيه العقائد من الغربيين أنفسهم". هذا الفهم أو القذف بالحداثة يقودنا على نحوٍ ما إلى ما شهدناه منذ ثمانينات القرن العشرين المنصرم من ارتكاسات في واقع البلدان العربية، وصعود موجة من"التقليد"ونمو الأصوليات والتطرف، فضلاً عن الهشاشة الفلسفية والفكرية لمظاهر الحداثة في معظم المواقع في البلدان العربية. والسؤال في هذا المجال يطاول أزمات الأنظمة العربية وهشاشتها، والانهيارات التي طاولت مختلف الصعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، حيث اتبعت معظم هذه الدول سياسات التهميش والإقصاء للآخر المختلف، إلى جانب فشل برامج التنمية وإخفاقها، والتصدعات الحادة في منظومة القيم، وسياسات قمع الفكر النقدي وغياب المساءلة والمحاسبة. ويبقى في النهاية سؤال الحداثة، وركائزه من عقلانية وديموقراطية وحقوق الإنسان ومجتمع مدني... وهي ركائز شبه غائبة عن الواقع العربي. ولكن لا يغيب عنا أيضاً أن التاريخ الإنساني لم يشهد قيام حداثة من دون صراع طويل.