لم يكن البحث عن السعادة أمرًا طارئًا وجديدًا، إذ شغل به الإنسان منذ بدء الخليقة، محاولاً العثور على ما يتيح له عيش حياة ملائمة. لكن شكل هذه الحياة السعيدة أو الملائمة لم يكن واحدًا، كما أن منهج الوصول إليها لم يكن واحدًا، أو بعبارة أخرى لم تكن هنالك وصفة سحرية واحدة يتبعها المرء فيصل إلى غايته المرجوَّة. يقول ويل سميث في فيلم البحث عن السعادة: «ربما كانت السعادة أمرًا يمكننا البحث عنه فقط، لكننا لا نستطيع بلوغه أبدًا»، وربما ازدادت هذه المعضلة (معضلة السعادة) تعقيدًا مع تفشي النزعة الاستهلاكية التي صارت سمة ملازمة لهذا العصر، الذي يتسم بالقلق، وبالتالي تصبح السعادة معضلة أخلاقية في كثير من جوانبها، يتنصل الكثير من الفلاسفة، الذين رأوا أن تعريف السعادة جزء من دورهم، من أداء مهمتهم في تفسيرها أو بيان المنهج الذي يؤدي بالمرء إلى الحصول عليها. يفرد زيجمونت باومان الفصل الرابع من كتابه الأخلاق في عصر الحداثة السائلة (الصادر بترجمة د. سعد البازعي وبثينة الإبراهيم عن مشروع كلمة عام 2016)، للحديث عن السعادة التي تغير تعريفها بحلول الحداثة السائلة، وقيام الحضارة الاستهلاكية – أو حضارة الفوارغ Disposable Civilization كما سماها عبد الوهاب المسيري- التي تتمثل في النزوع نحو النسيان أو المحو أو الشطب، فكل ما ينتج في السوق قابل للنسخ بمنتج آخر، وبالتالي إلى تقصير المسافة بين المتجر وسلة المهملات. «هل أنت سعيد؟» سؤال يشغل إنسان هذا العصر الذي ربط سعادته بمقدار الأشياء التي يرغب بها ويحصل عليها، دون أن يعني ذلك شعوره الدائم بالرضا، لأنه شعور آنيٌّ لحظوي تقتله اللحظة التالية التي تأتي محمَّلة بمزيد من الرغبات، ويصبح عندها كل إشباع لحاجة هو توليد لحاجات أخرى، يقول جورجياس السفسطائي اليوناني: «كيف يمكن لإنسان أن يبرهن على أنه سعيد إذا كان مستعبدًا من امرئ آخر؟» لكنه في الوقت نفسه لا يمانع أن يكون هذا المرء مستعبدًا من رغباته، بل يرى أن عليه إشباعها بأقصى ما يستطيع، وهو هنا يشجع الإنسان المستهلك على زيادة استهلاكه، «وما يحدث أنه يتحول البحث عن حلول المشكلات وتسكين الألم والقلق في المتاجر، وفي المتاجر فقط، إلى سلوك ليس مسموحًا به فحسب، بل يشجَع بحماس ليصبح عادة» (الأخلاق في عصر الحداثة السائلة ص 225). ويبدو أن التعليم نفسه يكرس هذه النزعة حين يعزز مبدأ النسيان، «لأننا انتقلنا من حضارة الوقت ولهذا السبب من التعلم والحفظ، إلى حضارة سرعة الزوال، وبالتالي النسيان» (السابق ص237). ومع ازدياد الإقبال على وسائل التواصل الاجتماعي، صار لمفهوم السعادة شكلٌ آخر، لا يتنافى مع ما ذُكر آنفًا، بل يوازيه ويبدو مكملاً طبيعيًا له. فقد صار منسوب السعادة يزداد كلما ازداد عدد المتابعين والإعجابات والمشاهدات – على اختلاف التطبيق المستخدم. ولهذا فإن الراغب بالحصول على شهرة وسعادة من هذا النوع لا يكترث كثيرًا بالمبادئ الأخلاقية أو آداب اللياقة والذوق العام، ما دام المضمون الذي ينشره سيجلب له المزيد من المتابعين، ويمنحه سعادة مضاعفة، خاصة بعد تحول توم أندرسن (مؤسس شبكة ماي سبيس التي اشتراها روبرت مردوخ ب (580 مليون دولار)، أو تشاد هرلي وستيف تشين (مؤسسا يوتيوب اللذان حصلا على أسهم بحصص طائلة في موقع جوجل)، إلى أيقونات ونماذج يحتذيها الشباب، فيتطرفون في ممارساتهم تلك أملاً في أن يبتسم لهم القدر كما ابتسم لهؤلاء، وتتحقق لهم السعادة كما تحققت يومًا لجاك الذي زرع - دون قصد - حبات الفول السحرية، وتمكن من الحصول على ثروة العملاق التي خلصته من الشقاء والفاقة، وجلبت السعادة على «أطباق من ذهب» له ولوالدته. لم يعد الحصول على السعادة في عصر الاستهلاك أمرًا هينًا، إذ يتطلب بذل الكثير من الجهد و»التنازلات»، وهذا ما يجعل أخلاقنا على المحك، أو قد يمنحنا فرصة لاكتشاف مدى هشاشة مبادئنا، أو صلابتها كما نأمل!