هل ثمة وصفة سحرية لتحقيق السعادة؟ السؤال مطروح في كتاب «السعادة: موجز تاريخي»، (سلسلة عالم المعرفة/ ترجمة سعيد توفيق). يحاول وايت تعريف السعادة، ويستقصي العقبات التي أزاحها العقل البشري وهو يسعى إليها. كما يستقصي الرؤى الفلسفية النادرة التي يمكن أن تسهل الوصول إلى مفهوم شامل للسعادة. يتتبع الكتاب معنى السعادة في كتابات الفلاسفة الذين انشغلوا بها، ويبرز مدى ما هنالك من تضارب في المواقف والآراء حول الأهداف والرغبات التي تتعلق بالسعادة: هل السعادة هي اللذة؟ أم حالة من الانسجام بين الأهداف والرغبات؟ هل تكمن في فضيلة التأمل العقلي التي هي أكمل فضائل النفس الإنسانية؟ أم إنها تكمن في حالة السكينة الروحية؟ أم هي غير ذلك كله؟ يتتبع المؤلف هذه النظريات وغيرها بإيجاز بدءاً من أفلاطون وأرسطو والأبيقوريين والرواقيين، حتى الفلاسفة النفعيين في العصر الحديث، بل إنه يعرج على نيتشه الذي يقف على مشارف الفكر المعاصر، وهو يشير في شكل عابر إلى من جاء بعده من المعاصرين. ويقسم وايت الكتاب إلى سبعة فصول تبدأ من «عرض المفهوم»، وتنتهي ب «التصرف من دون مفهوم». وبينهما تاريخ يقدر بعشرات القرون من بحث العقل الإنساني عن السعادة، ليس للوصول إليها فقط، ولكن لتعريفها. فربما لو وصلنا إلى التعريف يمكننا أن نصل إليها، وربما لو تمكنا من الوصول إليها فلن يشغلنا وقتذاك أن نصل إلى تعريف لها! وفق ما يمكن أن يعتقد كل منا في سعادته ومعناها. لكن الكاتب لا يقدم تاريخاً شاملاً لفكرة السعادة البشرية كما تظهر في ميادين وأشكال وتجليات كثيرة، في الفن أو في الواقع والتاريخ، لكنه يقدم موجزاً تاريخياً لها كما ظهرت من خلال مدارس العقل الكبرى في الفكر الأوروبي، وخلال عصرين زاهيين من عصور الفلسفة هما العصر اليوناني والعصر الحديث بدءاً من القرن السابع عشر الميلادي. ويلخص الكتاب اتجاهات الفكر خلال التاريخ الفلسفي في التعامل مع فكرة السعادة في ثلاثة اتجاهات كبرى. الأول هو اتجاه جورجياس – فيلسوف سوفسطائي - والذي خرج منه في ما بعد، في شكل أكثر نضجاً وتعقيداً بالطبع، «مذهب اللذة الكمية» في القرن الثامن عشر الميلادي، والذي يعنى بتبسيط مفهوم السعادة في كونه تحقيق الرغبات، كل الرغبات بغض النظر عن ماهيتها أو تضاربها، ويضم هذا الاتجاه العام آراء أخرى كثيرة متباعدة مثل آراء الفيلسوف الألماني «نيتشه» وغيره. والثاني الاتجاه الأفلاطوني الذي طرح السعادة بصفتها بنية من الرغبات المتداخلة والمتضاربة، وتتحقق السعادة عندما يضم تحقيق كل هذا الأهداف داخل بنية واحدة في تناسق وانسجام، ويمكن تحقيق ذلك من خلال التأمل. أما الثالث، فيجسده موقف أرسطو الذي يرى أنه على الإنسان أن يعظم من رغبة واحدة من رغباته الكثيرة باعتبارها الرغبة الأسمى. يطرح الكاتب مفهوماً مغايراً لفكرة اللذة التي تحقق السعادة، يطرح مفهوم: «مفارقة مذهب اللذة» حيث يرى أنه لكي نحقق السعادة يجب ألا نستهلك الكثير من الوقت في التفكير فيها، فمن الأسهل أحياناً بلوغ السعادة، حينما لا يسعى المرء إليها بطريقة مباشرة، مثل من يحاول النوم، يجب أن يذهب بذهنه بعيداً من محاولته النوم، ساعتها سيأتي النوم فعلاً. ويضرب الكاتب مثلاً لتقريب هذا المفهوم، فيرى أن «الناس الذين يحتاجون إلى الراحة، أو الذين يحتاجون إلى النوم، يعرفون أنه من الأفضل عدم إمعان النظر في هذا الأمر، إذا ما أرادوا النجاح في مهمتهم». وهذه الخاصية المدهشة هي من الأمور البدهية في حياة الإنسان، فهو لو فكر بالطريقة التي يؤدي بها الأشياء فلن يؤديها أصلاً، فحتماً «ترجع إلى حقيقة تتعلق بطبيعة الموجودات البشرية: فهي لا يمكن أن تستمتع على الفور حينما تفكر في الكيفية التي يمكن بها أن تستمتع»! لكنها أيضاً تعود إلى سبب مباشر أكثر بساطة من هذا التعقيد البشري، وهو أن من يتطلع إلى الحصول على السعادة، أو على مقدار كبير من متعة ما داخل حيز سعادته الشاملة سيكون بالتأكيد واعياً بالكلفة التي تترتب على ذلك أثناء تفكيره فيه. يقدم المؤلف تعريفاً محدداً لإشكالية السعادة في الفكر الفلسفي. هذه الإشكالية التي تظهر نتيجة وجود عدد من الأهداف لدى كل إنسان، وكلها أهداف يتوقف على تحقيقها، تحقيق السعادة. ولا يمكن تطوير مفهوم ما عن السعادة إلا من خلال الوعي بهذه الأهداف. ولا يتحقق مفهومنا عن السعادة إلا من خلال الإقرار بواقع تضارب هذه الأهداف وتداخلها المعقد. وكما هي الحال عادة في الفلسفة، فالخطوة الأولى في الإشكالية وطرح المفهوم تبدأ من عند أفلاطون في محاورتيه «جورجياس»، و «الجمهورية». وعندما يناقش أفلاطون فكرة جورجياس عن السعادة التي تعني أن يحقق الإنسان كل ما يريد، فإنه يوضح له جوانب التعقيد الماثلة في هذه القضية، فمثلاً، إذا سلمنا بأن السعادة هي «تحقيق أكبر إشباع ممكن لأي رغبة كانت، فما هو التقدير الذي يجب أن نضعه في اعتبارنا لتحقيق الرغبات التي نراها مخزية أو تافهة أو مخزية وتافهة؟ يقول له أفلاطون طارحاً الأعماق المعقدة للقضية. ينتهي نيكولاس وايت خلال بحثه الموجز هذا في التاريخ الفلسفي لمعنى السعادة، إلى أنه لا وجود لمعنى عام يمكن أن نسترشد به في كل موقف، وأننا يمكن أن نحيا السعادة ونتصرف بما يكفل لنا تحقيقها من دون أن نكون موجهين بمفهوم عام للسعادة ينطبق على كل حالة أو موقف، فحتماً «تاريخ مفهوم السعادة كان بمنزلة بحث عن شيء ما لا يمكن الحصول عليه». وربما كان يقصد أنه شيء لا يمكن الحصول عليه بالعقل أو بالمنهج فقط، وفي هذه الحالة علينا أن نواصل بحثنا بطرق أخرى أقرب للحصول على الإجابة. وقد يكون قصد ببساطة أننا بصدد أمر لا يمكن الحصول عليه نهائياً، لا بطريق العقل والمنهج، ولا بأي طريقة أخرى. وفي النهاية يخبرنا الكاتب بأنه «يمكننا تأكيد أننا توصلنا إلى معنى مهم، وهو أن تاريخ مفهوم السعادة كان بمنزلة بحث عن شيء ما لا يمكن الحصول عليه».