يقولون: (الشعر ديوان العرب الأوائل).. أي سجل تاريخهم، وهو قول صحيح ودقيق، فمن خلاله عرفنا عاداتهم وتقاليدهم واهتماماتهم الثقافية والاجتماعية، ولولاه لما كان لتلك الأمة (الأمية) الشفهية، أن تحفظ تراثها وتاريخها في مجالاتها الحياتية وأن تتوارثه.. وبنزول الوحي، وانتقال العرب من عصور الأمية إلى عصور الكتابة والتدوين، فقد الشعر كثيراً من وظائفه الموضوعية؛ وأعني به شعر ما قبل الإسلام، حين انشغل العرب بالدعوة للدين الجديد، وبالفتوحات العسكرية التي رافقت تلك المرحلة؛ إلا أن الشعر لم يضمحل تماماً، وإنما انتقل إلى معاصرة المستجدات الحياتية التي طرأت على الثقافة العربية بعد اختلاطها بالأمم والثقافات الأخرى.. فبعد أن كانت الصورة الشعرية عند عرب ما قبل الإسلام وصفية، لا ترتقي إلا للعلاقة الحيوانية، الخالية من الأحاسيس الإنسانية؛ يُجسدها قول الشاعر الجاهلي: أصبحت الصورة تهتم بتفاصيل الجمال وتتذوق عذوبة الصورة، كقولهم مثلاً: وهذا يعني من زاوية نقدية أخرى أن الشعر ابن بيئته، وسجل حقيقي لمن يعيشون في تلك البيئة المكانية، وتلك الحقبة الزمنية، فهو يمثلهم أفضل تمثيل. الشاعر المبدع، والمتميز «حيدر العبدالله»، قوبل بعاصفة من السخرية والازدراء والتهكم، حينما ألقى قصيدة فصحى جميلة عذبة وموزونة بموازين الخليل بن أحمد الفراهيدي بين يدي خادم الحرمين الشريفين.. ربما أنه لم يُحسن إلقاءها، غير أنها قصيدة في منتهى الجمال، وتنم عن ملكة شاعرية متميزة. ولا أخفيكم أنني أول ما سمعتها بإلقائه لم ترق لي ولم استعذب معانيها، غير أنني حينما قرأتها مكتوبة، رأيت فيها أبعاداً جمالية، وتميزاً شعرياً، قل أن تجد له نظيراً. طيب: ما سبب هذا الاستهجان الشعبي والسخرية التي صاحبت هذه القصيدة بشكل غير مسبوق وغير مبرر نقدياً؟ في تقديري أن من أهم الأسباب الإلقاء غير الموفق، وهذا ما ظهر جلياً حينما ألقى القصيدة نفسها الأستاذ المذيع المتمكن «خالد المدخلي». البعد الآخر والمهم عدم تذوق الجماهير للشعر الفصيح عموماً مقابل احتفائهم وتمجيدهم للشعر الشعبي.. وهذا له ما يبرره موضوعيا؛ فالشعر الجاهلي -مثلاً- كان بالفعل ديوان وسجل عرب ذلك الزمان، لأنه يُقال باللغة المحكية وبنحوها وصرفها، تماماً كما يتحدث الجاهليون، وبالتالي فالجميع حينها يفهمونه ويتذوقونه ويتداولونه حفظاً، لأن الشاعر حينها يستخدم ألفاظهم ومفرداتهم اللغوية التي يتكلمون بها.. أما الشاعر الفصيح اليوم فإنه يستعمل لغة عربية قديمه، أغلب ألفاظها ومنظومة نحوها وصرفها تكاد أن تكون مندثرة، فلا علاقة لها باللغة التي يتحدثون بها، وليست بالتأكيد اللغة المحكية المتداولة. فالشعر الذي لا يكتب بلغة الناس ويتعالى عليهم، ويشعرهم أنهم (عوام)، لن يكون له قطعاً أي قدر من الحفاوة الشعبية والجماهيرية، بينما أن الشعر المنغمس في لغتهم ومصطلحاتهم ومشتقاتها، ويحكي معاناتهم ويجسد حياتهم اليومية، لا بد وأن يحتفون به ويتذوقونه ويصفقون له؛ فلو أقيمت -مثلاً- أمسية شعرية للأمير الشاعر بدر بن بن عبدالمحسن أو فهد عافت أو مساعد الرشيدي، لحضرها الآلاف، مقابل قلة قليلة سيحضرون أمسية شاعر يكتب بالعربي الفصيح. وهذا إطلاقاً لا ينم عن تقدم أو تأخر ثقافي، وإنما هي الواقعية الموضوعية التي يتعالى على الاعتراف بها بعض المثقفين. ولعل ما لاقاه شاعرنا (الفصيح) المبدع حيدر العبد الله خير مثال لما أقول. إلى اللقاء،،،