قبل أكثر من عامين، حين كتب الشاعر علي الدميني بياناً مؤثراً أعلن به عن إغلاق موقع (منبر الحوار والإبداع) أردتُ أن أكتب عنه، أو حتى أذكره في مقالة، ولكنني لم أفعل.. فقد رأيتُ أن كتابتي عنه في تلك اللحظة لن تكون أكثر من مجرد إعلان محبة لشاعر كبير كرّس وقته وجهده لعدد من السنوات في محاولة جادة لتنوير مجتمعه عبر منبر استطاع أن يجعله للحوار والإبداع على درجة عالية من المسؤولية؛ غير أن بيانه كان أوفى من أي كلام كنتُ سأحاول أن أقوله عنه في مقالة لم أكتبها.. ولم أشأ أن أذكره ذكراً عابراً في مقالة تقارب الهمّ نفسه، ذلك لأنه يستحق إتمام الكلام عنه وليته يوفيه حقه. الآن علي الدميني يعطيني الفرصة للحديث عنه، بإهدائي نسخة من ديوانه الشعريّ الجديد (خرز الوقت) الصادر مؤخراً عن نادي الباحة الأدبي ودار الانتشار.. ولأنني ملتزمٌ في قراءاتي للدواوين الشعرية التي تعجبني بعدم استعارة دور الناقد، وأن أكتفي بنقل ما يشدّني تعبيراً عن الاحتفاء به، فسأنقل هذه القطعة التي جاءت بعنوان (طفولة) من منحوتات صغيرة: (الله، لو أني احتفظتُ ببعض ألعابِ الطفولةِ لانتشيتُ الآن بالفرح الذي ينهلّ نهراً جارفاً، - تركَ الشيوخَ - وجاء ممتطياً، إليَّ، حصانهُ من غرفة الأطفال)! والحنين الحقيقيّ إلى الطفولة لا يأتي إلا من بعد تعب طويل، ومسيرة وعرة تكاد تتلف في صاحبها كل أصحابه عدا الذاكرة.. ذاكرة الطفولة، والحنين إليها، يقول حارسُ الليل: (مللتُ الوقوفَ على طللِ الأمكنةْ مللتُ احتفاظي بأسراركم وسلالاتِ أسلافكم والغبار...) ويا الله، كم أعجبني مقطعٌ في (صفحة من نهار أوراق البردى) حدَّ الانتشاء باستحقاق الشعر سيداً لكل الأزمنة.. وعلي الدميني الذي قرأته قديماً في (بياض الأزمنة) ازداد توغلاً في (وقت) الأزمنة وبياضها، حتى الخرز.. حتى هذا المقطع الضارب عمقاً في روعته: (الآن، متكئاً على ظلّي، وقامتها أغنّي دونما خوفٍ من النسيانْ أو وَجَلٍ من السجّانِ تأخذنا الخُطى صوبَ القناطر، حين أسلمنا السفينةَ في أعالي النهر للعشاق، وانتبهتْ أصابعُنا إلى الضوء البعيدِ يهلُّ من مشكاة صيادين في النهر الطويل، ومن فوانيس القرى، والشدو في الحلقاتِ، قيل لنا اهبطوا تلكَ البلادَ، فإنّ امرأة العزيز، قد استرابت من نشيد القمح في الشرفاتِ والمزمار في الحاراتِ والراياتِ في الميدانِ وانتبذتْ مكاناً خارجَ الأسوارِ يعصمها من الطوفانِ قلتُ: هنا يجيءُ الوقتُ، سوف أخضّبُ الألوان في لوحي، وأكملُ رسمَ صورتها...) أمّا أنا، فبهذه القطع الثلاث التي اقتطفتها من ديوان (خرز الوقت) لعلي الدميني، أظنني قد أظهرتُ بعضاً من إعجابي بهذا الشعر وتقديري لهذا الشاعر الذي يشكّل وقتاً مميزاً في أزمنتنا التي باتت وكأنها تفرّط في كل الأشياء، حتى الوقت وثقافاته.. إلا الشعر والشعراء، أمثال علي الدميني وقلة من معاصريه - أعتزّ بأنني منهم، وإن كنا لم نلتق حتى اللحظة إلا من خلال الكتابات، وهي عندي أهمّ اللقاءات - أقول: إلا الشعراء، فالأزمنة تعجز عن التفريط بهم طالما أنهم لم يعجزوا عن القبض عليها وتثقيفها بأوقاتهم.