عندما تكتسب ثقة اللغة يمكنك التعبير عن ذاتك وشجنك، وتنحت نموذجك الذي لا ينال منه الزمن القديم وجريان الدهر. وبقدر ما تعددت اهتمامات الشاعر علي الدميني وبقدر حرصه على الإخلاص لكل منها، إلا أن الشعر كان أكثر وفاء له ومعه. يكفي أنه الوصف الملازم له منذ خمسين عاما وإن استعصى على التوصيف. الدميني المهندس خريج جامعة البترول والمعادن، ومدير البنك السابق، لم يفتتن بشيء قدر افتتانه بالكلمات، إذ إن كل شيء في نظره مشيد من كلمات. اللغة مالكة ونادرا ما قبلت أن تكون ملكية خاصة. ومع كل إطلالة شعرية منذ رياح المواقع والقصيدة الخالدة «الخبت» تمسكت قصيدة الدميني بفرادة التوليد للصور مع الاحتفاظ بموسيقاها غير المتكلفة واعتماد الرمزية في بناء سماء موازية لا تمل احتضان المزيد من كواكب المعجم الشعري ونجوم الأحرف النابضة بحب الحياة. وفي كل نص تعتق في أرضه المنهكة تزهر شرفات الكلام وتضيء الاستعارات من بين غيوم الأدغال. الكلمة عند الدميني جسر يحاول من خلاله إنقاذ المتعبين على الضفة الأخرى ولذا يعتني به ليكون شفيفا ورهيفا وآمنا ومؤنسنا لكي لا يجرح العابرين عليه. لا يكتب الدميني ترفا ولا ضرورة عنده للكتابة إلا عندما تحضر الإرادة المبدعة لتفجر نواة معاناة وآن أوان رسمها للحدود بين الجسد والروح وبين الصوفي وبين التأمل. وبرغم قناعته بمقولة أن النص يكتب الشاعر، إلا أنه يغوص في بحر التلقي ولا يلغي المشيئة، يوازن بين تحليق الشاعرية وبين جاذبية المتلقي، ولذا نجح في توظيف الحداثة عمليا بخلاف أسارى التنظير. وبرغم أن طفولة شاعرنا اغتسلت في غيل وادي الجهيد إلا أن شاعريته لم تفقد ملاحتها. واليوم يصدر له عن أدبي الباحة ودار الانتشار ديوان «خَرَزُ الوقْتْ» وسيوقعه للأحبة والأصدقاء في المعرض الدولي للكتاب في الرياض في التاسع من شهر مارس المقبل. ومن قصائد الديوان: كِتاب المُغنّي (*) أُغنّي، وإما تساءلَ عنّي المغنيّ لماذا أُغنيّ؟ أُغني لأنّي أرى شبهي في الغناءِ وأغنيتي في كتاب المغنيّ. قفا نحمدُ الله، أن الفتى لم يزل غارقاً في طفولتهِ مثل «نخل الحسا» وعيون «العيون». يقلّب بين اليدين مداخل جنات عدْنٍ، وأنهارَ نارٍ تضيء المدائنَ، من شارع المتنبي ببغداد حتى ابتسام الخليج، لحي «الدواسرِ» في شارع الحبِ، حينَ تسلّلَ في غُصّة الليل من وجعٍ نحو آخرَ، من راية لم تعد شجراً، يانعاً بالعصافيرِ، أو لامعاً كالأساطيرِ، حتى دنا وتدلّى على سعفِ النخل فاتحةً من رفيف اليمام و «وسميّة» من لموع السحاب. قفا، نحمد الله، أن الفتى عاد من سفرٍ، وأناب إلينا فآنس ناراً بأطراف رمل الجزيرة مترعة بالحنين وحُمّى السرابْ فأسرج أشواقها في «أغاني الكتاب».