أكاد أجزم أنني ابتليت بعيني زرقاء اليمامة منذ ولدت في البحرين بعد مأساة فلسطين، ووجدت العروبة والشعر موروث جيناتي. في الثمانينيات داهمني الحدس قصائد تربط ما نرى بما سنرى. وفي مطلع القرن بدأ تحقق الكوابيس كالنار تسري من كل الجوار إلينا. في اجتماع دافوس في نيويورك بعد شهرين من تفجير الأبراج، وجدت في كل جلسة دخلتها من يقف ويكرر رسالة موحدة الصيغة: «تم عمل رصد للآراء في السعودية نتيجته أن 90 في المائة من السعوديين يوافقون على مرئيات بن لادن والتفجير. بعد تكرر الرسالة في أربع جلسات رابعها حول محور «الإعلام والإرهاب» سألت ناقل الخبر للجلسة عن المصدر، حيث 90 في المائة نسبة عالية تجرّم شعبًا بأكمله، ولم نسمع بهذا الرصد في السعودية. تلعثم الرجل وقال: «سمعنا»! قلت منفعلة جدًا: ألا تحترم عقول هذا الجمع النخبوي الحاشد الذي جاء من أصقاع العالم البعيد ليحضر مؤتمرًا معتبرًا؟ تدس إشاعة تهمة تجرّم شعبًا بأكمله وتستشهد برصد لم يحدث؟ صفق الحضور، وكان الحدث حديث المراسلين بوسائل الإعلام يومها. لم يتوقف الدس وزرع وترسيخ فكرة التجريم. وتوسع فوصل لتلبيسنا تهمة «المسلم عدو الإنسانية». ومع «ظهور» داعش يجسد التوحش باحترافية هوليوودية وتمويل مجهول المصدر اكتمل السيناريو و«حقّ عالميا» لمن يدّعون التحضر أن يحاربوا العرب والمسلمين «أصل الإرهاب وأعداء الإنسانية». وأبعدت إسرائيل من التركيز العالمي على ما تفعل بالفلسطينيين، وما تخطط لجيرانها، والتدقيق في الأراضى التي سرقتها من سكانها العرب. منذ قبل سايكس بيكو هو تكرار لحلقات جديدة من سيناريو متواصل لفاعل مستتر برداء الحليف القوي وبتوجه مدروس للتنفيذ: «ازرعوا في المنطقة بذور الفرقة والفئوية، لينقسموا بينهم ويحاربوا أنفسهم، مع تعكير قدرة الرؤية والتركيز لحماية خطتنا. ودعوا الفخار الإقليمي يكسر بعضه. اخلوا الأرض من سكانها ودمروا ذاكرة تاريخها وهويتها وارسموا حدودًا قابلة للتمدد بخريطة مرنة تضمن مصالحكم المستقبلية». وهكذا استمرت الوجهة من بئر سبع سنة النكبة إلى «الربيع» العربي لنعايش مأساة الموصل وحلب وتعز. كثير مما حدث في المنطقة أو ارتبط بها كتفجيرات نيويورك لم يكن واضحًا لأغلبية العالم، لأنه يقدم منتزعًا من سياق جغرافي وتاريخي، يوضح ارتباطات تفاصيله الأعمق، ويضعه بمتناول الفهم خارج كونه حدثًا محليًا. إقليميًا فقد الغرب السيطرة على منابع النفط وطرق التجارة شرقًا. أسقط الشاه، بعد أن استفاق لضرورة الإصلاح في إيران، بثورة دينية جاءت بنظام الملالي الانتهازي، وأعدم الآلاف ممن دعموا الثورة وفوجئوا باستمرار القهر، فلجأ الملالي لاشغال الشعب عن مصائب الداخل بفكر تصدير الثورة وبناء مجد امبراطورية فارسية بعذر تمكين الشيعة. في السعودية أفشِلت محاولة جهيمان السنية المماثلة في تطرفها فكريًا. المخطط الصهيوني تركز في القضاء على كل قوة عسكرية إقليميًا بدئًا بضرب مفاعل سوريا، ثم غزو العراق بعذر البحث عن أسلحة الدمار الشامل الوهمية، ثم حدث تحول استراتيجي لتجنب الدخول في حروب مباشرة مكلفة ماديًا وبشريًا ومرفوضة من أهل الجنود، وصار التركيز على تحويل الوعي العام الإقليمي، من التوجه القومي والإسلامي وكلاهما يرفض هيمنة الغرب، إلى «توعية أبناء المنطقة لحقوقهم» بمعنى، «مواجهة الأنظمة المحلية وإشعال العنف داخليًا». وجاءت فكرة «الفوضى الخلاقة» بموسم الربيع العربي ومظاهرات إسقاط الأنظمة بدئًا بتونس فليبيا ومصر واليمن وسوريا.و الآن نعايش تحول المدن العامرة إلى ساحات حروب وأطلال عاجزة عن حماية نفسها من تسرطن مكوناتها، ناهيك عن مواجهة مخططات مستترة. والأنكى أننا نعتاد تفتت الشعور بالانتماء العربي، ونفقد الثقة بديننا في تشوهات الغلو والتطرف والتوحش والتدعشن. فهل داعش حقيقتنا فعلاً؟ هكذا يحاولون إقناع الجميع بما فيهم بعضنا. وهو بيت القصيد. وسأواصل معكم في الحوار اللاحق.