إرهاب داعش - من حيث هو إرهاب صريح، مباشر، يخترق كل الأعراف والقوانين البشرية (وليس الدولية/ السياسية فحسب) – إرهاب له طابع الحدث الكوني أُحادي البُعد؛ على الرغم من كونه في النهاية حدثا سياسيا يتقاطع مع اهتمامات ورغبات الآخرين سلبا وإيجابا كَمْ هو مُبهجٌ هذا الإجماع العالمي الذي توفّر للحرب على الإرهاب الديني في نسخته الداعشية التي هي الأبشع في تاريخ الإرهاب المعاصر. وكَمْ هو وَاعِدٌ هذا الإجماع العالمي الذي قلّما يحدث إلا في نوادر النوازل الكونية؛ مما يشي بأننا على عتبة عصر جديد في التعاطي مع خطر الإرهاب. وكَمْ هو مُهمٌ وضروري أن نكون – بكل رمزيتنا الدينية، وبكل نفوذنا الإقليمي - في مقدمة هذا التحالف الدولي الذي اجتمع على أنبل وأشرف وأخطر مهمة في العصر الحديث، مما يؤكد أننا شريك أساسي في بلورة واقع إنساني، على الأقل في مجالنا الحيوي الإقليمي الذي هو جزء من أمننا القومي على كل حال. لا يحدث مثل هذا الإجماع العالمي بسهولة، وخاصة عندما تكون الكارثة لها ارتباطاتها المتنوعة والمتعددة الأبعاد. كثيرا ما يحدث هذا الإجماع في الكوارث الطبيعية/ الكونية ذات البُعد الواحد الصامت. انفجار بركاني مدمر، زلزال ينسف المدن والقرى، طوفان يجتث الحرث والنسل، تسونامي يجرف السواحل بمن فيها... إلخ الكوارث الكونية الطبيعية. هنا يحدث إجماع دولي؛ لأن الكارثة أحادية البُعد، ولا يد للإنسان فيها، لا سلبا ولا إيجابا، فلا أحد يتعمد حدوثها ليستفيد، أو ليقهر خصما أو منافسا. ومن ثم لا مصالح في الاختلاف عليها، بل لا إمكانية في الاختلاف حتى لو ترتب عليها مصالح غير مباشرة؛ فصورتها ككارثة إنسانية أحادية البعد/ مباشرة، تفرض على كل دول العالم – بما في ذلك الدول المارقة - أن تنظر إليها من منظر إنساني خالص، ولو في مستوى الخطاب السياسي المعلن. إرهاب داعش - من حيث هو إرهاب صريح، مباشر، يخترق كل الأعراف والقوانين البشرية (وليس الدولية/ السياسية فحسب) – إرهاب له طابع الحدث الكوني أُحادي البُعد؛ على الرغم من كونه في النهاية حدثا سياسيا يتقاطع مع اهتمامات ورغبات الآخرين سلبا وإيجابا. لكن صراحة هذا الإرهاب وبشاعته وكونه موجّها للعالم أجمع بلا استثناء، هو ما جعل العالم بلا استثناء يقف ضده، بل ويحشد الجيوش لحربه. فحتى الدول التي لا مصلحة لها في حربه؛ لكونها تبتعد عنه آلاف الأميال، ولكون تركيبتها السياسية والثقافية والبشرية لا تجعلها في تقاطع معه في أي حال، وجدت نفسها مجبرة على أن تقف ضده في حرب معلنة وصريحة، وذلك من موقف أخلاقي إنساني لا يسمح لأحد بالتقاعس؛ وإلا كان كمن يتنازل عن إنسانيته صراحة، فهو – تماما - كمن يعلن اللامبالاة بالكوراث الكونية ذات البعد الإنساني الخالص. من هنا، نجد أن إرهاب داعش هو أخطر إرهاب، كما هو أهون إرهاب! كونه الأخطر، لا يحتاج لتوضيح؛ إذ هو في خطابه المعلن الشديد الإقصائية والمبني على المصادمة الصريحة لبدهيات حقوق الإنسان، كما في ممارساته الموغلة في البشاعة والتوحش، يكشف – بالقول الصريح وبالفعل الصريح - عن مآلات أي نفوذ يتمدد له. فكل مساحة جغرافية يبسط نفوذه عليها يعني أن مستوى البشاعة الإنسانية في ازدياد، وأن تهديد هذه البشاعات بات أكبر، أكبر؛ كخطر حقيقي على الحياة ذاتها، على الوجود ذاته، وليس على نوعيته فحسب. كما وأنه خطر مفتوح على الجميع، خطر لا يتأطر بحدود، خطر ينهش الأقرب فالأقرب، وهدفه المعلن (فليس ثمة تخمين هنا) هو بسط نفوذه ليصل إلى آخر نقطة تسمح به قوته. ومن هنا فالجميع مستهدف، وكل دقيقة يُترك فيها يعني أنه يزداد قوة، وكل قوة يحظى بها تعني أن مستوى الكارثة الإنسانية في اتساع؛ لكون القوة هنا تعني – مباشرة – تمددا في النفوذ الجغرافي، ومن ثم وقوع أكبر عدد من البشر تحت سيطرة هذا التوحش الإرهابي، ما يعني اتساع دائرة الكارثة الإنسانية. هذا من حيث كونه الأخطر. أما من حيث كونه الأهون، فهو لصراحته في إرهابه، أي لكونه يطرح ما يطرحه على مستوى الخطاب متسقا – تماما - مع مستويات بشاعة الممارسة. إنه إرهاب لا يتذرّع بغير الإرهاب، لا يبحث عن الأعذار، ولا عن المبررات السياسية، لا يمارس شيئا ويقول شيئا آخر، ممارسته هي عين خطابه. ومن هنا، فكل قول يقوله هو فعل حاصل أو مؤجل، وكل فعل يمارسه في الواقع، ومهما كانت درجة بشاعته ومصادمته للشعور الإنساني، هو طرح عقائدي صريح. فالخطاب هنا ممارسة، كما أن الممارسة خطاب. وهنا، لا مراواغة، بل ولا سياسة، فأنت أمام مجرم يعلن عن جريمته، ويتحداك بمنطق القوة، لا بقوة المنطق. ولا شك أن هذا يختلف عن الإرهابي الذي يتوارى خلف مقولات وتبريرات وسياسيات ذرائعية، بحيث يجعلك عند مكافحته تخوض حربا على مستويين: مستوى تعرية الخطاب، وكشف ملابساته ومفارقاته مع الأصل والواقع، ومستوى الحرب بالقوة القاهرة للحد من عنفه الإجرامي في الواقع. وإذا كان العالم على مستوى الدول - من حيث هي كيانات مسؤولة بشكل أو بآخر – قد قرر الحرب على كيان داعش الإرهابي، وأسهمت كل دولة بما تستطيع؛ نتيجة قناعة دولية حاسمة بأن هذا الكيان الإجرامي يشكل خطرا مباشرا على الإنسان؛ فإن الجماعات الإرهابية، والزعامات الدينية التي لم تقطع بشكل كامل مع إيديولوجيا الإرهاب، قد حزّ في وجدانها أن يُضرب هذا الكيان الإجرامي الذي يرفع شعارات الإسلام، لا لأنه يعكس تصوراتها المثلى لما يجب أن يكون عليه الأمر في الواقع، وإنما لأن هذا الكيان يعبر عن غضبها المكبوت من واقع لا تتحكم فيه، وفشلت كل وسائلها في سبيل توفير ما يمكنها من أن تتحكم فيه. ولهذا وجدنا هذا الجماعات والزعامات تُدين داعش، وفي الوقت نفسه تدين ضربَ داعش على يد قوى عالمية؛ من غير أن تبيّن لنا كيف يمكن القضاء على داعش من دون أن يتوفر هذا التحالف الدولي؟! وإذا كان هذا الموقف الداعم بشكل غير مباشر لكيان داعش مفهوما عندما يصدر عن غلاة الغلاة من متطرفي التكفير، أو عن الجماعات الإرهابية المشهورة بتبنيها للعنف المسلح، فإن صدوره عن مدعي خطاب الاعتدال الإسلامي يدعو للريبة، لا في حقيقة اعتدالهم الديني فحسب، وإنما في مستوى قدرتهم على ضبط رؤيتهم للواقع بعيدا عن تداعيات الغضب وردود الأفعال المنفلتة التي تجعلهم يقفون مع أبشع الكيانات الإجرامية وأشدها توحشا؛ لمجرد أن التحالف الدولي الذي يتصدى للإجرام الداعشي يتضمن بعض الدول التي يصنفها هؤلاء في خانة الأعداء. لقد صرّح القرضاوي في تويتر تصريحا خطيرا يدل على أحد أمرين أو عليهما جميعا: إما على إرهاب مبطن، وإما على غباء سياسي منقطع النظير. يقول القرضاوي في تغريدته: "أنا أختلف مع داعش تماماً في الفكر والوسيلة لكني لا أقبل أبداً أن تكون من تحاربهم أمريكا". فتأكيده على الاختلاف عن داعش ابتداء، يدل على أن ما بعد هذا التأكيد مدعاة للشك في أنه لا يختلف مع داعش؛ إذ لا يتصور أحد أن تحالفا دوليا ضد الإرهاب يكون بمعزل عن المشاركة الأمريكية الفاعلة، فرفض المشاركة الأمريكية هو في الحقيقة رفض للتحالف ذاته. هذا من حيث معادلات القوة (العسكرية وغير العسكرية) ومستوى فاعليتها. وأما من حيث المبدأ، فمهما كان موقفك من الولاياتالمتحدة، فلا تنسَ أنها في مواجهة كيان إجرامي متوحش غاية التوحش، ومسيء – بكل هذا التوحش - إلى الإسلام. ولا يمكن للقرضاوي أن يبرر رفضه المشاركة الأمريكية في هذا التحالف إلا في حال اعتبرها تتفوق في إجرامها وتوحشها – إيديولوجيا وممارسة – على داعش. وهذا ما لا يمكن أن يخطر على قلب أعدى أعداء أمريكا حتى في لحظات الهذيان، ولكنه اليوم يجري على لسان من يعده أنصاره أبرز رموز الاعتدال الإسلامي! واضح أن القرضاوي (وأشباهه كثير، فهو ظاهرة؛ وليس فردا) مضطرب هنا، فعداؤه لأمريكا يجعله يتخذ موقفَ غضبٍ طفولياً لا يستطيع حتى الإتيان بمبررات معقولة، بدليل أنه عندما أراد أن يبرر موقفه من أمريكا قال في التغريدة ذاتها عن أمريكا: "لا تحركها قيم الإسلام بل مصالحها وإن سفكت الدماء". هكذا قال نصا؛ وكأن الرجل في غيبوبة عقلية، بحيث يتصور أن أمريكا قد أعلنت نفسها دولة إسلامية، والتزمت بأن لا تحركها إلا قيم الإسلام! العالم تحركه مصالحه، ومن مصالحه الحفاظ على الحد الأدنى من الأخلاقيات الإنسانية غير مخترقة على نحو فج وصريح. والمهم أن كثيرا من المصالح، بما فيها عولمة القيم الإنسانية، قد تلتقي على مواجهة ظاهرة إجرامية لا يختلف أحد على بشاعتها (بدليل أن القرضاوي نفسه أدانها، ولم يستطع تأييدها صراحة، بل دافع عنها من نافذة العداء لأمريكا)، وهنا لا يسع أحد أن يتخلى عن مسؤوليته في هذه المواجهة. وأي تبرير من أي نوع، وبأي مبرر كان، هو تمكين لهذا التوحش المعادي للإنسان. إذا كان ثمة خطأ في موقفنا، أو في الموقف الأمريكي، أو الموقف العالمي برمته، فهو خطأ تأخرنا في إعلان الحرب العسكرية على هذا الكيان الإجرامي وذيوله من جماعات الإرهاب. ونحن نخطئ أكثر؛ إن تأخرنا أو تقاعسنا أو لم نأخذ بهذه الحرب إلى مداها الأبعد (= متابعة التشكلات الإرهابية كافة، وعلى كل المستويات) وفي مداها الأوسع (= متابعتها على امتداد التنوع الجغرافي؛ بحيث لا ندع أية بيئة حاضنة). وكل مَن يستطيع تقديم أي شيء في هذه الحرب المعلنة على الإرهاب يجب الترحيب به؛ ما دام جُهده يصب في هذه الخانة تحديدا، ولا يجوز التردد – فضلا عن الرفض – في قبول (التحالف المحدد بهذا الإطار) مع أي أحد، أي أحد؛ وبلا استثناء؛ ما دام تحالفا لمواجهة أبشع جماعات الإرهاب.